الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتبيين **
بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنّا نَعوذ بك من فِتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل ونعوذ بك من التكلُّف لما لا نُحِسن كما نعوذ بك من العُجْب بما نحسن ونعوذ بك من السَّلاطة والهَذَر كما نعوذ بك من العِيّ والحَصَر وقديماً ما تَعَوَّذُوا بالله من شرّهما وتضرَّعوا إلى الله في السلامة منهما وقد قال النَّمر بن تولب: من الوافر أعِذْنِي ربِّ من حصَرٍ وعِيّ ومن نَفْسٍ أعالجُهَا عِلاجَا وقال الهُذَليّ: من مجزوء الوافر ولا حَصِرٌ بخُطَبتِهِ إذا ما عَزَّتِ الخُطَبُ وقال مكّيُّ بنُ سَوادة: من الخفيف حَصِرٌ مُسْهَبٌ جرِيء جَبانٌ خيرُ عِيِّ الرجال عِيّ السُّكوت وقال ابن أحمر الباهليّ: من الكامل لو كنتُ ذا علمٍ علمتُ وكيف لي بالعلم بعد تَدَبُّرِ الأمرِ وقالوا في الصمت كقولهم في المنطق قال أُحَيْحَة بن الجُلاح: مجزوء الكامل والصمت أجْمَل بالفتى ما لم يكن عِيٌّ يَشينُهْ والقول ذو خَطَل إذا مَا لم يكن لُبٌّ يُعينُهْ وقال مُحرِزُ بن علقمة: من الوافر لقد وارَى المقابرُ من شَرِيكٍ كثِيرَ تحلُّمٍ وقليلَ عابِ صموتاً في المجالس غير عَيٍّ جديراً حين ينطق بالصّوابِ وقال مكّيُّ بنُ سوادةَ: من الوافر تسَلَّمَ بالسُّكوت من العيوب فكان السَّكْتُ أجلَبَ للعيوبِ ويرتجلُ الكلامَ وليس فيه سوى الهَذَيانِ من حَشْدِ الخطيبِ وقال آخر: من الطويل جَمَعْتَ صنوف العِيِّ من كلِّ وِجهَةٍ وكنتَ جديراً بالبلاغة من كَثَبْ أبوكَ مُعِمٌّ في الكلام ومُخْوَِلٌ وخالك وثّابُ الجراثيمِ في الخُطَبْ أتانا ولم يعدِلْهُ سحبانُ وائلٍ بياناً وعلماً بالذي هو قائلُ فما زال عنه اللَّقْمُ حتَّى كأنه من العِيِّ لما أنْ تكلّمَ باقلُ
سحْبانُ مثَلٌ في البيان وباقِلٌ مثل في العِيّ ولهما أخبارٌ وقال الآخر: من الرجز ماذا رُزِينا منكِ أمَّ الأسْودِ من رَحَبِ الصَّدرِ وعقلٍ مُتْلَد وهي صنَاعٌ باللسانِ واليدِ وقال آخر: من الرجز لو صَخِبَتْ شَهْرينِ دأْباً تَمَلّ وجَعلَتْ تُكثر من قولٍ وَبَلْ حبُّكَ للباطل قِدْماً قد شَغَلْ كسْبَكَ عن عِيالنا قلتُ: أجَلْ تضجُّراً مِنَّي وعِيّاً بالحِيَلْ قال: وقيل لبُزُرْجِمِهْرَ بن البختكان الفارسيّ: أيُّ شيءٍ أستَر للعَيِّ قال: عقلٌ يجمِّله قالوا: فإن لم يكن له عقلٌ قال: فمالٌ يستره قالوا: فإن لم يكن له مال قال: فإخوانٌ يعبِّرون عنه قالوا: فإن لم يكن له إخوانٌ يعبرون عنه قال: فيكون عيِيّاً صامتاً قالوا: فإن لم يكنْ ذا صَمْت قال: فموت وحيٌّ خيرٌ له من أن يكونَ في دار الحياة وسأل اللّه عزّ وجلّ موسى بنُ عمران عليه السلام حين بعثه إلى فرعونَ بإبلاغ رسالته والإبانةِ عن حجّته والإفصاح عن أدِلّته فقال حين ذكر العُقْدة التي كانت في لسانه والحُبْسةَ التي كانت في بيانه: " وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي " طه: 72 وأنبأنا اللّهُ تبارك وتعالى عن تعلُّق فرعونَ بكلِّ سببٍ واستراحته إلى كل شَغَب ونبَّهنا بذلك على مذهبِ كلِّ جاحدٍ معاند وكلِّ مُحْتالٍ مكايِد حينَ خبَّرنا بقوله: " أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يكادُ يُبِينُ " الزخرف: 25 وقال موسى عليه السلام: " وَأخي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسانَاً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُني " القصص: 43 وقال: " وَيَضيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنْطَلقُ لِسَانِي " الشعراء: 31 رغبةً منه في غاية الإفصاح بالحجّة والمبالغةِِ في وضوح الدَّلالة لتكون الأعناقُ إليه أَمْيَلَ والعقولُ عنه أفهمَ والنفوسُ إليه أسرع وإن كان قد يأتي من وَرَاءِ الحاجة ويَبْلغ أفهامَهم على بعض المشقّة وللَّهِ عزّ وجلّ أن يمتحِنَ عبادَه بما شاء من التخفيف والتّثقيل ويبلُوَ أخبارَهم كيف أحَبَّ من المحبوب والمكروه ولكلِّ زمانٍ ضرب من المصلحة ونوعٌ من المِحْنة وشكلٌ من العبادة ومن الدَّليل على أنّ اللّه تعالى حَلّ تلك العقدة وأطلق ذلك التعقيد والحُبْسة قولُه: " رَبِّ اشْرَحْ لي صَدْرِي وَيَسِّر لي أمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَل لي وَزِيراً منْ أهْلِي هَارُونَ أَخي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي " طه: 52 - 23 إلى قوله: " قَدْ أُوتِيتَ سُؤلَكَ يَا مُوسَى " طه: 63 فلم تقع الاستجابة على شيءٍ من دعائه دون شيء لعُموم الخبر وسنقُول في شأنِ موسى عليه السلام ومسألتِه في موضعه من هذا الكتاب إن شاء اللّه وذكر اللّهُ تبارك وتعالى جميلَ بلائه في تعليم البيان وعظيمَ نِعمته في تقويم اللسان فقال: " الرَّحْمنُ عَلَّمَ القُرْآنَ خَلَقَ الإنْسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ " الرحمن: 1 - 4 وقال تعالى: " هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ " آل عمران: 831 ومدح القرآنَ بالبيان والإفصاح وبِحسن التَّفصيل والإيضاح وبجودة الإفهام وحكمة الإبلاغ وسماه فرقاناً كما سمّاه قرآناً وقال: " عَرَبِيّ مُبِين " النحل: 301 وقال: " وَكَذلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياً " الرعد: 73 وقال: " وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تبْياناً لكُلِّ شَيْءٍ " النحل: 98 وقال: " وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً " الإسراء: 21 وذكر اللّه عزّ وجلّ لنبيّه عليه السلام حالَ قريش في بلاغةِ المنطق ورجاحة الأحلامِ وصحّة العقول وذكر العربَ وما فيها من الدَّهاء والنَّكْراء والمَكْر ومن بلاغة الألسنة واللّدَدِ عند الخُصومة فقال تعالى: " فَإذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ " الأحزاب: 91 وقال: " وتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً " مريم: 79 وقال: " وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِِهِِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ " البقرة: 402 وقال: " ءَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لكَ إلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ " الزخرف: 85 ثم ذكَر خلابةَ ألسنتهم واستمالتَهم الأسماعَ بِحُسنِ منطقهم فقال: " وَإنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقوْلهِمْ " المنافقون: ثمَّ قال: " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ في الْحياةِ الدُّنْيَا " البقرة: 402 مع قوله: " وَإذَا تَوَلّى سَعَى في الأرْض لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ " البقرة: 502 وقال الشاعر في قوم يُحسنون في القول ويسيئون في العمل قال أبو حفص: أنشدني الأصمعيّ للمكَعْبَر الضَّبّيّ: من الطويل كُسالى إذا لاقيتَهم غيرَ منطقٍ يُلَهَّى بِه المحروبُ وهو عناءُ وقيل لزُهمان: ما تقول في خُزاعة قال: جوعٌ وأحاديث وفي شبيه بهذا المعنى قال أُفنون بن صُرَيم التغلبيّ: من البسيط لو أنّني كنتُ مِن عادٍ ومن إرَمٍ غذِيَّ قَيل ولقمانٍ وذي جَدَنِ لَمَا وقَوْا بأخيهم من مهُوِّلَةٍ أخا السَّكونِ ولا حادُوا عن السَّنَنِ أنَّى جَزَوْا عامراً سُوءَى بفِعلهِمُ أم كيفَ يَجزُونني السُّوءَى من الحَسَن أمْ كيفَ ينفَعُ ما تُعطِي العَلُوقُ به رئمَانُِ أنفٍ إذا ما ضُنَّ باللَّبنِ رئمان أصله الرّقة والرّحمة والرَّؤُوم أرقُّ من الرؤوف فقال: رئمان أنف كأنها تَبَرُّ ولدَها بأنفها وتمنعُه اللبن ولأنّ العربَ تجعلُ الحديثَ والبَسط والتأنيس والتلَقِّيَ بالبشر من حقوق القِرَى ومن تمام الإكرام به وقالوا: مِن تمام الضِّيافةِ الطَّلاقةُ عند أوّلِ وَهْلة وإطالةُ الحديث عند المواكلة وقال شاعرهُم - وهو حاتم الطائيّ: من الطويل سَلِي الجائعَ الغَرثَانَ يا أمّ مُنْذِرِ إذا ما أتاني بين ناري ومَجْزَِرِي هَلَ أبسُطُ وجهي أَنّه أوّلُ القِرَى وأبذلُ معروفي له دون مُنكَري وقال الآخر: من الرجز إنّك يا ابنَ جعفرٍ خيرُ فتَى وخيرهُمْ لطارقٍ إذا أتى ورُبَّ نِضوٍ طَرَقَ الحيَّ سُرَى صادفَ زاداً وحديثاً ما اشتهى إنّ الحديثَ جانبٌ من القِرَى وقال الآخر: من الطويل لحافي لحافُ الضَّيفِ والبيتُ بيتُه ولم يُلهِني عنه غزالٌ مقنَّعُ أُحَدِّثُه إنّ الحديثَ من القِرى وتعلمُ نفسي أنّه سوف يهجعُ ولذلك قال عمرو بن الأهتم: من الطويل فقلت له: أهلاً وسهلاً ومرحباً فهذا مَبيتٌ صالحٌ وصديقُ أُضاحِكُ ضيفي قبلَ إنزال رَحْلِه ويُخصب عندي والمحلُّ جَديبُ وما الخِصْب للأضياف أن يكثُر القِرَى ولكنّما وجهُ الكريمِ خصيبُ ثم قال اللّه تبارك وتعالى في باب آخر من صفة قريش والعرب: " أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهذَا " الطور: 23 وقال: " فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ " الحشر: 2 وقال: " انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ " الإسراء: 84 وقال: " وَإنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ منْهُ الجِبَالُ " إبراهيم: 64 وعلى هذا المذهب قال: " وَإنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ " القلم: 15 وقد قال الشاعر في نظر الأعداء بعضِهم إلى بعض: من الكامل يتقارضون إذا التَقَوْا في موقفٍ نَظَراً يُزِيلُ مَوَاطِئَ الأقدامِ وقال اللّه تبارك وتعالى: " وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ " إبراهيم: 4 لأنَّ مدار الأمر على البيان والتبيُّن وعلى الإفهام والتَّفهُّم وكلّما كان اللّسانُ أبْيَنَ كان أحمدَ كما أنّه كلما كان القلبُ أشدّ استبانةً كان أحمد والمفهمُ لك والمتفهِّم عنك شريكان في الفضل إلاّ أنّ المفهِم أفضل من المتفهِّم وكذلك المعلِّم والمتعلِّم هكذا ظاهرُ هذه القضية وجمهور هذه الحكومة إلا في الخاصّ الذي لا يُذكَر والقليلِ الذي لا يُشهرَ وضرب اللّه عزّ وجل مثلاً لعيِّ اللسان ورداءة البيان حين شبّه أهلَه بالنساء والولدان: فقال تعالى: " أَوَ مَنْ يُنَشَّأُ فيِ الْحِلْيَةِ وَهُوَ في الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ " الزخرف: 81 ولذلك قال النَّمر بن تولَب: من المتقارب وكلُّ خليلٍ عليه الرِّعا - ثُ والحُبُلاتُ ضعيفٌ مَلِقْ الرِّعاث: القِرَطَة والحُبُلات: كلُّ ما تزيَّنت به المرأةُ من حَسَن الحلْى والواحدةُ حُبْلَة وليس حَفِظك اللَّه مضرَّةُ سلاطة اللسان عند المنازعة وسَقَطات الخطل يوم إطالة الخُطبة بأعظمَ مما يحدُث عن العيّ من اختلال الحجّة وعن الحَصَر مِنْ فوت دَرَك الحاجة والناس لا يعيِّرون الخُرس ولا يلومون مَن استولى على بيانه العجز وهم يذمون الحَصِرَ ويؤنِّبون العييّ فإن تكلّفا مع ذلك مقاماتِِ الخطباء وتعاطَيَا مناظرة البلغاء تضاعف عليهما الذمّ وترادَفَ عليهما التأنيب ومماتنةُ العَيِّ الحصِرِ للبليغِ المِصقَع في سبيل مماتَنَة المنقطع المفحَم للشاعر المفلق وأحدُهما ألْومُ من صاحبه والألسنةُ إليه أسرع وليس اللَّجلاج والتّمتام والألثغ والفأفاء وذو الحُبسَة والحُكلة والرُّتَّةِ وذو اللَّفَفِ والعجلة في سبيل الحَصِرِ في خطبته والعييّ في مناضلة خصومه كما أن سبيلَ المُفْحَم عند الشعراء والبكئ عند الخطباء خلافُ سبيل المسْهَب الثَّرثار والخَطِل المِكْثار ثم اعلم - أبقاك اللّه - أنّ صاحب التشديق والتقعير والتقعيب من الخطباء والبلغاء مع سماحةالتكلّف وشُنعةِ التزيُّد أعذَرُ من عييّ يتكلف الخطابة ومن حَصِرٍ يتعرض لأهل الاعتياد والدُّرْبَة ومَدارُ اللائمة ومستقَرُّ المذَمّة حيث رأيتَ بلاغةً يخالطها التكلف وبياناً يمازجه التزيّد إلا أنّ تعاطِيَ الحَصِر المنقوصِ مَقامَ الدرِب التامّ أقبَحُ من تعاطي البليغ الخطيب ومن تشادُقِ الأعرابيِّ القُحّ وانتحالُ المعروفِ ببعض الغَزارة في المعاني والألفاظ وفي التحبير والارتجال أنّه البحرُ الذي لا يُنزَح والغَمْر الذي لا يُسبَر أيسَرُ من انتحال الحَصِر المنخُوب أنّه في مِسلاخِ التام الموفّر والجامع المحكّك وإن كان النبي # قد قال: إياي والتشادُق وقال: أبغضكُم إليَّ الثّرثارون المتفيهقون وقال: مَن بدا جَفا وعاب الفَدَّادِينَ والمتزيِّدين في جَهارة الصوت وانتحال سعة الأشداق ورُحْبِ الغلاصم وهَدَل الشِّفاه وأَعْلَمنَا أن ذلك في أهل الوبر أكثَر وفي أهل المدَر أقلّ - فإذا عابَ المدريَّ بأكثَرَ مما عاب به الوبريّ فما ظنُّك بالمُولَّد القَرَويّ والمتكلِّف البلديّ - فالحَصِرُ المتكلّف والعِييُّ المتزيّد ألوَمُ من البليغ المتكلِّف لأكَثرَ مما عنده وهو أعذر لأنّ الشُّبهة الداخلةَ عليه أقوى فَمنْ أسوأ حالاً - أبقاك اللّه - ممّن يكون ألْوَمَ من المتشدِّقين ومن الثّرثارين المتفيهقين وممن ذكره النبي # نصاَّ وجعل النَّهي عن مذهبه مفسَّراً وذكر مقْته له وبغضَه إياه ولمَّا علم واصلُ بنُ عطاء أنّه ألثغُ فاحش اللَّثَغ وأنّ مَخرج ذلك منه شنيع وأنه إذ كان داعيةَ مقالةٍ ورئيسَ نحلة وأنّه يريد الاحتجاج على أرباب النحل وزعماء الملل وأنّه لا بُدَّ له من مقارعَة الأبطال ومن الخطب الطِّوال وأنّ البيان يحتاج إلى تمييزٍ وسياسة وإلى ترتيب ورياضة وإلى تمام الآلة وإحكام الصنعة وإلى سهولة المخرج وجَهارة المنطق وتكميل الحروف وإقامة الوزن وأنّ حاجة المنطق إلى الحلاوة كحاجته إلى الجزالة والفخامة وأن ذلك من أكثر ما تُستمال به القلوب وتُثْنَى به الأعناق وتزيَّن به المعاني وعلِمَ واصلٌ أنهّ ليس معه ما ينوب عن البيان التامّ واللسان المتمكِّن والقوة المتصرِّفة كنحو ما أعطى اللَّه تبارك وتعالى نبيَّه موسى عليه السلام من التوفيق والتَّسديد مع لباس التَّقوى وطابَعِ النبوة ومع المِحْنة والاتساع في المعرفة ومع هَدْيِ النبيِّين وسَمْت المرسَلين وما يُغَشِّيهم اللَّهُ به من القَبول والمهابة ولذلك قال بعضُ شعراء النبي #: من البسيط لو لم تكن فيه آياتٌ مُبيِّنةٌ كانت بداهتُه تُنْبيك بالخبرِ ومع ما أعطى اللّهُ تبارك وتعالى موسى عليه السلام من الحجَّة البالغة ومن العلامات الظاهرة والبرهانات الواضحة إلى أن حلّ اللَّه تلك العقدة وأطْلَقَ تلك الحُبْسة وأسقط تلك المحنة ومن أجْل الحاجة إلى حُسن البيان وإعطاء الحروف حقوقَها من الفصاحة رامَ أبو حذيفةَ إسقاطَ الراء من كلامه وإخراجَها من حروفِ منطِقِه فلم يزل يكابِد ذلك ويغالبُه ويناضله ولولا استفاضةُ هذا الخبرِ وظهورُ هذه الحال حتّى صار لغرابته مثلاً ولطَرافته مَعْلماً لما استجزَنْا الإقرارَ به والتأكيدَ له ولستُ أَعْنِِي خُطَبه المحفوظة ورسائله المخلَّدة لأنَّ ذلك يحتمل الصَّنعة وإنما عَنيْتُ محاجَّة الخصوم ومناقلَة الأكْفاء ومفاوضةَ الإخوان واللُّثغة في الراء تكون بالغين والذال والياء والغينُ أقلُّها قبحاً وأوجَدُها في كبار الناس وبلغائهم وأشرافهم وعلمائهم وكانت لُثْغة محمد بن شبيب المتكلم بالغين فإذا حمل على نفسه وقوَّم لسانه أخرج الراء وقد ذكره في ذلك أبو الطُّرُوق الضبّيّ فقال: من الطويل عليمٌ بإبدال الحروف وقامعٌ لكلِّ خطيبٍ يغلبُ الحقَّ باطلُه وكان واصلُ بن عطاءٍ قبيحَ اللُّثغة شنيعَها وكان طويلَ العنق جِداً ولذلك قال بَشَّارٌ الأعمى: من البسيط ما لِي أشايعُ غزَّالاً له عنقٌ كنِقْنِقِ الدَّوِّ إن ولّى وإن مََثَلا عُنْقَ الزَّرافةِ ما بالي وبالُكُمُ أتُكْفِرون رجالاً أكفَروا رجُلا فلما هجا واصلاً وصوَّب رأيَ إبليسَ في تقديم النَّار على الطِّين وقال: من البسيط الأرض مظْلمةٌ والنارُ مُشرِقةٌ والنار معبودةٌ مذْ كانت النارُ وجعل واصل بنَ عطاءٍ غَزَّالاً وزعَم أنَّ جميعَ المسلمين كفَروا بعد وفاة الرسول # فقيل له: وعليٌّ أيضاً فأنشد: وما شَرُّ الثلاثةِ أمَّ عمرٍو بصاحبك الذي لا تَصْبَحينا قال واصلُ بن عطاءٍ عند ذلك: أمَا لهذا الأعمى الملحِد المُشنَّف المكَنَّى بأبي معاذٍ مَن يقتله أما واللَّه لولا أن الغِيلة سجِيّةٌ من سجايا الغالية لبعثْتُ إليه من يبعَج بطنه على مضجعه ويقتُله في جوف منزلِه وفي يوم حَفْله ثم كان لا يتولَى ذلك منه إلا عُقَيليٌّ أو سَدُوسيّ قال إسماعيل بن محمّدٍ الأنصاريُّ وعبدُ الكريم بن رَوح الغِفَاريّ: قال أبو حفص عُمر بن أبي عثمان الشَّمَّرِيُّ: ألا تَريان كيف تجنب الراء في كلامه هذا وأنتما لِلَّذي تريان من سلامته وقلة ظهور التكلُّف فيه لا تظُنّان به التكلّف مع امتناعه من حَرْفٍ كثير الدَّوران في الكلام ألا تريانِ أنّه حين لم يستطعْ أن يقول بشَّار وابن بُرد والمرعَّث جعل المشنَف بدلاً من المرعَّث والملحِد بدلاً من الكافر وقال: لولا أنّ الغِِيلة سجيَّةٌ من سجايا الغالية ولم يذكر المنصوريّة ولا المُغِيريَّة لمكان الراء وقال: لبعثت من يبعج بطنه ولم يقل: لأرسلتُ إليه وقال: عَلَى مضجعه ولم يقل: على فراشه وكان إذا أراد أن يَذْكُر البُرّ قال: القمح أو الحنطة والحنطةُ لغةٌ كوفيَّة والقمح لغة شاميّة هذا وهو يعلم أنّ لغةَ من قال بُرّ أفصحُ من لغة مَن قال قمح أو حنطة وقال أبو ذؤيب الهذليّ: من البسيط لا دَرَّ دَرِّيَ إن أطعمتُ نازلهم قِرف الحَتِيِّ وعندي البُرّ مكنوزُ وقال أميّة بن أبي الصلت في مديح عبد اللّه بن جُدْعان: من الوافر له داعٍ بمكة مشمعِلٌّ وآخرُ فوقَ دارَتِه يُنادِي إلى رُدُح من الشِّيزَى عليها لُباب البُرّ يُلبكُ بالشِّهادِ وقال بعض القرشيِّين يذكر قيسَ بن مَعْد يَكرِبَ ومَقدمَهُ مكة في كلمةٍ له: من الرجز قيسٌ أبو الأشعثِ بِطْريقُ اليمنْ لا يسأل السائلُ عنه ابنُ مَنْ أشبَعَ آل اللَّه من بُرِّ عَدَنْ وقال عمر بن الخطاب رحمه اللَّه: أتَرُوْنَ إنّي لا أعرف رقيق العيش لُبابُ البُرّ بصغار المِعْزَى وسمع الحسنُ رجلاً يعيب الفالوذَق فقال: لُبابُ البُرّ بُلعاب النَّحل بخالص السَّمن ما عاب هذا مسلمٌ وقالت عائشة: ما شَبع رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم من هذه البُرّة السّمراء حتّى فارقَ الدُّنيا وأهلُ الأمصار إنّما يتكلمون على لُغة النازلة فيهم من العرب ولذلك تَجد الاختلافَ في حدّثني أبو سعيدٍ عبدُ الكريم بن رَوح قال: قال أهل مكّةَ لمحمد بن المُناذِر الشاعر: ليست لكم معاشرَ أهل البصرة لغةٌ فصيحة إنّما الفصاحة لنا أهلَ مكّة فقال ابن المُناذر: أمّا ألفاظُنا فأحْكَى الألفاظِ للقرآن وأكثرُها له موافقةً فضَعُوا القرآنَ بعد هذا حيثُ شِئتم أنتم تُسمُون القِدر بُرْمَة وتجمعون البُرمة على بِرَامٍ ونحن نقول قِدر ونجمعها على قُدور وقال اللَّه عز وجل: " وجِفَان كالجَوَابِي وقُدورٍ رَاسِياتٍ " سبأ: 31 وأنتم تسمُّون البيت إذا كان فوق البيت عُلِّيَّةً وتجمعون هذا الاسم على عَلالِيّ ونحن نسمِّيه غرفة ونجمعها على غُرفاتٍ وغرفٍ وقال اللّه تبارك وتعالى: " غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيّةٌ " الزمر: 02 وقال: " وَهُمْ في الغُرُفَاتِ آمِنُونَ " سبأ: 73 وأنتم تسمُّون الطَّلعَ الكافورَ والإغْريضَ ونحن نُسمّيه: الطَّلْع وقال اللَّه تبارك وتعالى: " وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ " الشعراء: 841 فعَدّ عشر كلماتٍ لم أحفظ أنّا منها إلا هذا ألا ترى أنّ أهلَ المدينة لما نزل فيهم ناسٌ من الفُرْس في قديم الدّهر عَلِقُوا بألفاظ من ألفاظهم ولذلك يسمُّون البِطِّيخ: الخِرْبِز ويسمُّون السميط: الرَّزْدَق ويسمُّون المَصُوص: المَزُور ويسمون الشِّطرنج: الأشْترَنْج في غير ذلك من الأسماء وكذلك أهلُ الكوفة فإنّهم يسمُّون المِسحاة: بال وبَالْ بالفارسيّة ولو عَلِق ذلك لغةَ أهل البصرة إذْ نزلوا بأدنى بلاد فارس وأقصى بلاد العرب كان ذلك أشبَهَ إذ كان أهلُ الكوفة قد نزلُوا بأدنى بلاد النَّبَط وأقصى بلاد العرب ويسمي أهلُ الكوفة الحَوْك: الباذَرُوج والباذروج بالفارسية والحَوْك كلمة عربيّة وأهلُ البصرة إذ التقت أربعُ طرق يسمُّونَها: مُربَّعة ويُسمّيها أهلُ الكوفة: الجهار سوك والجهار سُوك بالفارسيّة ويسمّون السُّوق والسُّوَيقة: وازار والوازار بالفارسيّة ويسمُّون القِثَّاء: خِيَاراً والخيار بالفارسيّة ويسمُّون المجدوم: وَيذِي بالفارسية وقد يستخفُّ النَّاسُ ألفاظاً ويستعملونها وغيرُها أحقُّ بذلك منها ألا ترى أن اللَّه تبارك وتعالى لم يذكُر في القرآن الجوعَ إلا في موضع العقاب أو في موضع الفقر المدْقع والعجز الظاهر والناس لا يذكرون السَّغَب ويذكرون الجوع في حال القدرة والسلامة وكذلك ذِكر المطر لأنّك لا تجد القرآنَ يلفظِ به إلاّ في موضع الانتقام والعامّة وأكثرُ الخاصّة لا يَفصِلون بين ذِكر المطر وبين ذكر الغَيث ولفظُ القرآن الذي عليه نَزَلَ أنّه إذا ذكر الأبصار لم يقُل الأسماع وإذا ذكر سبع سموات لم يقل الأرَضين ألا تراه لا يجمع الأرض أَرَضين ولا السمعَ أسماعا والجاري على أفواه العامةِ غيرُ ذلك لا يتفقّدون من الألفاظ ما هو أحقُّ بالذكر وأولى بالاستعمال وقد زعم بعضُ القرّاء أنّه لم يجد ذكر لفظ النكاح في القرآن إلاّ في موضع التزويج والعامّة ربّما استخفت أقلَّ اللغتين وأضعفَهما وتستعمل ما هو أقلُّه في أصل اللغة استعمالاً وتدَعُ ما هو أظهر وأكثر ولذلك صِرنا نجد البيت من الشعر قد سار ولم يسر ما هو أجودُ وقد يبلغ الفارسُ والجوادُ الغايةَ في الشهرة ولا يُرزَق ذلك الذكرَ والتنويه بعضُ من هو أولى بذلك منه ألا ترى أنّ العامّةَ ابنُ القِرِّيّة عندها أشهر في الخطابة مِن سحبان وائل وعُبَيدُ اللَّه بن الحُرّ أذكَرُ عندهم في الفروسيّة من زُهير بن ذؤيب وكذلك مذهبُهم في عنترةَ بن شدَّاد وعُتَيبة بنِ الحارث بن شهاب وهم يضربون المثل بعمرو بن مَعْد يِكَرِب ولا يعرفون بِسطام بنَ قيس وفي القرآن معان لا تكاد تفترق مثل الصلاةِ والزكاة والجوعِ والخوف والجنة والنار والرَّغبة والرهبة والمهاجرين والأنصار والجنّ والإنس قال قطرب: أنشدني ضِرار بن عمرو قولَ الشاعر في واصل بن عطاء: من البسيط ويجعل البُرَّ قمحاً في تصرُّفه وجانَبَ الراءَ حتّى احتال للشّعَرِ ولم يُطِقْ مطَراً والقول يُعجِلُه فعاذَ بالغيث إشفاقاً من المَطرِ قال وسألت عُثمانَ البُرّي: كيف كان واصلٌ يصنع في العدد وكيف كان يصنع بعشرةٍ وعشرين وأربعين وكيف كان يصنع بالقَمر والبدر ويوم الأربعاء وشهر رمضان وكيف كان يصنع بالمحرم وصفر وربيع الأول وربيع الآخِر وجمادى الآخِرة ورجب فقال: ما لي فيه قولٌ إلا ما قال صفوان: من البسيط ملقَّن ملهَمٌ فيما يحاوله جَمٌّ خواطرُه جوّابُ آفاقِ وخَلَّةُ اللفظ في الياءات إن ذكِرَت كخَلَّةِ اللفظ في اللاماتِ والألِف وخَصْلَة الرَّاء فيها غيرُ خافيةٍ فاعرِفْ مواقعَها في القَول والصّحُف يزعم أنّ هذه الحروفَ أكثر تَرداداً من غيرها والحاجة إليها أشدّ واعتبِرْ ذلك بأن تأخذ عِدّةَ رسائلَ وعدة خطبٍ من جملةِ خطب الناس ورسائلهم فإنَّك متى حَصَّلتَ جميع حروفها وعددْت كلَّ شكل على حِدَة علمت أنّ هذه الحروفَ الحاجةُ إليها أشدّ
قال أبو عثمان: فمن ذلك ما خبّرنا به الأصمعيّ قال: أنشدني المعتمر بن سليمان لإسحاق بن سُويد العدويّ: من الوافر برِئت من الخوارج لستُ منهم منَ الغَزّال منهم وابنِ بابِ ومِن قومٍ إذا ذَكَروا عليّاً يَردُّون السَّلامَ على السَّحابِ ولكنِّي أحبّ بكلِّ قلبي وأعلَمُ أنّ ذَاكَ من الصَوابِ رسولَ اللَّهِ والصَّدّيقَ حُبّاً به أرجُو غداً حُسْن الثوابِ ما لي أُشايعُ غَزَّالاً له عنق كنِقْنِقِ الدّوّ إن ولَّى وإن مثَلا ومن ذلك قول مَعْدَانَ الشُّمَيطيّ: من الخفيف يوم تشفى النّفوسُ من يَعْصُرِ اللؤ - مِ ويُثنَى بسَامَةَ الرحَّالِ وعَديٍّ وتَيمِها وثَقِيفٍ وأُمَيٍّ وتغلِبٍ وهلالِ لا حَرُورا ولا النواصِبُ تَنْجُو لا ولا صَحْبُ واصِل الغَزَّال وكان بشَّارٌ كثيرَ المديح لواصِل بن عطاء قبل أن يدين بَشَّارٌ بالرَّجْعة ويكفِّرَ جميع الأمَّة وكان قد قال في تفضيله على خالِد بن صفوانَ وشبيبِ بن شَيبة والفضل بن عيسى ويومَ خطَبوا عند عبد اللّه بن عمر بن عبد العزيز والي العراق: من البسيط أبا حُذيفَة قد أوتِيتَ مُعْجِبِةً في خُطبةٍ بَدَهَتْ من غير تقديرِ وإنَّ قولاً يروق الخالِدَين معاً لمُسْكِتٌ مُخرِسٌ عن كلّ تحبيرِ لأنه كان مع ارتجاله الخطبَة التي نزع منها الراء كانت مع ذلك أطولَ من خطبهم وقال بشّار: من البسيط تكلَّفُوا القولَ والأقوامُ قد حَفَلوا وحَبّروا خطباً ناهِيكَ من خُطبِ فقام مرتجِلاً تغلي بداهتُه كمِرْجَل القيْن لما حُفَّ باللَّهب وقال في كلمة له يعني تلك الخطبة: من الطويل فهذا بديهٌ لا كتحْبيرِ قائلٍ إذا ما أراد القول زَوَّرَه شهرا فلما انقلب عليهم بشّارٌ ومَقاتِلُه لهم بادية هجوه ونفَوه فما زال غائباً حتى مات عمرو بن عُبيد وقال صفوان الأنصاري: من الطويل متى كان غَزَّال له يا ابن حَوْشَبٍ غلامٌ كعمرٍو أو كعيسى بن حاضِرِ أمَا كان عُثمانُ الطَّويلُ ابنُ خالِدٍ أو القَرْمُ حَفْصٌ نُهيةً للمُخاطِرِ له خلفَ شَعْب الصِّين في كل ثُغْرة إلى سُوسها الأقصى وخَلْف البرابرِ رجالٌ دُعاة لا يفُلُّ عزيمَهُم تهكُّم جَبّارٍ ولا كيدُ ماكِرِ إذا قال مُرُّوا في الشتَاء تطوَّعُوا وإن كان صيفٌ لم يُخَفْ شهرُ ناجرِ بهجرةِ أوطانٍ وبَذْلٍ وكُلْفةٍ وشدَّة أخطار وكَدِّ المسافرِ فأنجَحَ مَسعاهم وأثْقَب زَنْدَهم وأوْرَى بفَلْجٍ للمُخاصِم قاهِر وأوتادُ أرضِ اللَّه في كلِّ بلدةٍ وموضعُ فُتياها وعلمِ التشاجُر وما كان سحبانٌ يشقُّ غُبارَهم ولا الشُّدْقُ من حَيّيْ هلال بن عامرِ بجمعٍ من الجُفَّينِ راضٍ وساخطٍ وقد زحفَتْ بُدّاؤهم للمَحَاضرِ الجُفَّانِ: بكر وتميم والرَّوْقان: بكر وتغلب والغاران: الأزْد وتميم ويقال ذلك لكل عِمارةٍ من الناس وهي الجمع وهم العمائر أيضاً: غارٌ والجُفُّ أيضاً: قشْر الطَّلْعة - تَلقَّبَ بالغَزَّالِ واحدُ عصرِه فَمنْ لليتامى والقَبِيل المكائرِ ومَن لِحَرُورِيّ وآخرَ رافضٍ وآخرَ مُرْجيٍّ وآخرَ جائرِ وأمرٍ بمعروفٍ وإنكارِ منكَر وتحصين دين اللَّه من كل كافِر يُصِيبون فَصْلَ القول في كلِّ موطنٍ كما طَبَّقتْ في العظم مُدْيةُ جازر تراهُمْ كأنّ الطيرَ فوقَ رؤوسهم على عِمّةٍ معروفةٍ في المعاشرِ وسيماهُمُ معرفةٌ في وجوههمْ وفي المشي حُجَّاجاً وفوق الأباعرِِ وفي رَكعة تأتي على الليل كلِّهِ وظاهر قولٍ في مِثال الضمائرِ وفي قَصِّ هُدَّابٍ وإحفاء شاربٍ وكَوْرٍ على شَيبٍ يُضيء لناظِرِِ وعَنْفَقةٍ مصلومة ولنعلِه قِبالانِ في رُدْنٍ رحيب الخواصرِِ فتلك علاماتٌ تحيط بوصفهم وليس جَهُول القوم في علم خابِرِ وفيه يقول أسْباط بن واصل الشيبانيّ: من الطويل وأشهد أنَّ اللَّه سمَّاكَ واصلا وأنَّك محمود النقيبة والشِّيَمْ ولما قام بشّار بعُذر إبليس في أنّ النّار خيرٌ من الأرض وذكر واصلاً بما ذكره به قال صفوانِ: من الطويل زَعمتَ بأنّ النارَ أكرمُ عنصراً وفي الأرض تَحْيا بالحجارة والزَّنْدِ وتُخْلَق في أرحامها وأَرومها أعاجيبُ لا تُحصَى بخَطٍّ ولا عَقْدِِ وفي القَعر من لُجِّ البحار منافعٌ من اللؤلؤ المكنون والعنبر الوَرْدِ كذلك سِرُّ الأرض في البحر كلِّه وفي الغَيضة الغنَّاءِ والجبل الصَّلْدِ ولا بدَّ من أرض لكل مُطَيَّرٍ وكلِّ سَبُوحٍ في الغمائر من جُدِِّ كذاك وما ينساحُ في الأرض ماشيا على بطنه مَشْيَ المُجانِب للقَصْدِ ويَسْري على جلد يقيم حُزوزَه تعَّمُّجَ ماء السَّيل في صَبَبٍ حَردِِ وفي قُلَلِ الأجبال خلَف مُقطَّم زَبرجَدُ أملاك الوَرَى ساعةَ الحشدِِ وفي الحَرَّةِ الرَّجلاءِ تُلْفَى معادنٌ لهنَّ مغارات تَبَجَّسُ بالنَّقْدِِ وفيه زَرانيخ ومَكْرٌ ومَرْتَكٌ ومن مَرْقَشِيثا غيرِ كابٍ ولا مُكْدِيِ وفيها ضُروب القارِ والشَّبِّ والمَهَا وأصنافُ كِبريتٍ مُطاوِلةُ الوقدِِ ترى العِرْق منها في المقاطع لائحاً كما قَدَّتِ الحسناءُ حاشية البُرْدِ ومن إثمدٍ جَونٍ وكِلْسِ وفضَّة ومن تُوتِياءِ في معادنه هِنْدِي وفي كلِّ أغوارِ البلاد معادنٌ وفي ظاهر البيداء من مَسْتوٍ نَجدِِ وكلُّ يواقيتِ الأنام وحَلْيِها من الأرض والأحجارِ فاخرةِ المَجْدِ وفيها مَقامُ الخِلِّ والركنُ والصَّفا ومُستَلمُ الحُجَّاج من جَنَّة الخُلْدِ وفي صخرة الخِضر التي عند حُوتِها وفي الحجر المُمْهِي لمُوسى على عَمْدِِ وفي الصَّخرة الصماء تُصْدَعُ آيةٌ لأمّ فصيلٍ ذي رُغاءٍ وذي وَخْدِِ مفاخرُ للطِّين الذي كان أصلَنا ونحن بَنُوه غيرَ شكٍّ ولا جَحْدِ فذلك تدبيرٌ ونفعٌ وحكمة وأوضحُ برهانٍ على الواحد الفرد أتجعلُ عَمْراً والنِّطاسيَّ واصلاً كأتباعِ دَيْصَانٍ وهم قُمُشُ المَدِّ - يقول: إن مولاك ملاّح لأن الملاّحين إذا تظلَّموا رفعوا المَرادي - فيا ابنَ حليفِ الطِّين واللُّومِ والعَمَى وأبعدَ خلقِ اللَّه من طُرُق الرُّشْدِ أتهجُو أبا بكرٍ وتخلع بعْدَه عليّاً وتعْزو كلَّ ذاك إلى بُرْدِ كأنّك غَضبانٌ على الدِّين كلِّه وطالبُ ذَحْلٍ لا يَبِيت على حِقْدِ رجَعتَ إلى الأمصارِ من بعد واصل وكنتَ شريداً في التَّهائِم والنُّجْدِِ أتجعل ليلَى النَّاعِظية نِحلة وكلَّ عريقٍ في التناسُخِ والرّدِّ عليك بدَعْدٍ والصَّدوف وفَرتَنَى وحاضِنَتَيْ كِسْفٍ وزاملتَيْ هِنْدِِ تُوَاثب أقماراً وأنت مُشوَّهٌ وأقربُ خلقِ اللَّه من شَبَه القِرْدِ ولذلك قال فيه حمادُ عَجْرَدٍ بعد ذلك: من الهزج ويا أقبحَ مِن قردٍ إذا ما عَمِيَ القِردُ ويقال إنه لم يجزعْ بشار من شيء قطُّ جزعَه من هذا البيت وذكره الشاعرُ وذكر أخويه لأمّه فقال: من الطويل لقد ولدتْ أمٌّ الأكيمِهِ أعرَجاً وآخرَ مقطوعَ القفا ناقص العَضُدْ إذا دَعاهُ الخالُ أقعى ونكَصْ وهُجْنَةُ الإقراف فيه بالحِصَصْ وقال الشاعر: من الكامل لا تشهدَنّ بخارجيٍّ مُطْرِفٍ حتَّى ترى مِن نَجله أفراسا وقال صفوانُ الأنصاريّ في بشّارٍ وأَخَوَيْهِ وكان يخاطب أمهم: من البسيط ولَدْتِ خُلْداً وذيخاً في تشتُّمه وبعده خُزَزاً يشتدّ في الصُّعُدِ ثلاثَةٌ من ثلاثٍ فُرِّقوا فِرَقاً فاعرف بذلك عِرقَ الخالِ في الولدِ الخُلْد: ضربٌ من الجُرذان يولَد أعمى والذِّيخ: ذكرَ الضِّباع وهو أعرج والخُزَز: ذكر الأرانب وهو قصير اليدين لا يلحقه الكلب في الصُّعُد وقال بعد ذلك سُليمان الأْعمى أخو مسلمِ بن الوليد الأنصاري الشَّاعر في اعتذار بشّارٍ لإبليسَ وهو يخبر عن كَرَم خصال الأرض: من البسيط لا بَدَّ للأرض إن طابتْ وإنْ خَبُثَت من أن تُحِيل إليها كلَّ مغروس وتُربةُ الأرضِ إن جِيدت وإن قُحِطَتْ فحَمْلُها أبداً في إثر منفُوسِ وبطنها بفِلزّ الأرض ذو خَبَرٍ بكل ذي جوهر في الأرض مرموسِ - والفِلزُّ: جوهر الأرض من الذهب والفِضَّة والنحاس والآنُك وغير ذلك - وكلُّ ماعُونها كالمِلح مِرْفقةٌ وكلُّها مُضْحِكٌ مِن قول إبليسِ وقال بعض خُلَعاء بغداد: من السريع عجبتُ من إبليس في كِبْرهِ وقُبْحِ ما أظهَرَ من نيّته تاه على آدَمَ في سجدةٍ وصار قَوّاداً لذُرّيّتِه وذكره بهذا المعنى سليمانُ الأعمى أخو مسلم الأنصاريّ فقال: من البسيط يأبَى السّجودَ له من فَرْط نَخْوتِه وقد تحوَّل في مِسلاخ قَوّادِ وقال صفوانُ في شأن واصلٍ وبشّارٍ وفي شأن النّار والطّين في كلمةٍ له: من الطويل وفي جوفها للعَبد أستَرُ منزلٍ وفي ظهره يَقضِي فرائضَه العبدُ تمجُّ لُفَاظَ المِلح مَجّاً وتصطفي سبَائِكَ لا تَصْدَا وإن قدُم العهدُ وليس بمُحصٍ كُنْهَ ما في بُطونِها حسابٌ ولا خَطٌّ وإن بُلِغَ الَجَهْدُ فسائِلْ بعبد اللَّه في يوم حَفْلِهِ وذاك مَقامٌ لا يشاهده وَغْدُ أقام شبيبٌ وابنُ صَفوانَ قبلَه بقولِ خطيبٍ لا يجانبه القَصْدُ وقام ابنُ عيسى ثُمَّ قفّاه واصلٌ فأبدَعَ قولاً ما له في الورى نِدُّ فأقنَعَ كُلَّ القومِ شُكرُ حِبائِهم وقَلّل ذاك الضِّعْفَ في عينه الزُّهدُ قد كتبنا احتجاجَ مَن زعم أنَّ واصلَ بنَ عطاءٍ كان غَزَّالاً واحتجاجَ مَن دفَع ذلك عنه ويزعم هؤلاء أنّ قَولَ الناس: واصلٌ الغزّال كما يقولون: خالد الحذَّاء وكما يقولون: هشامٌ الدَّستَوائيّ وإنما قيل ذلك لأنّ الإباضيّة كانت تبعثُ إليه من صَدَقاتها ثياباً دَسْتَوائية فكان يكسوها الأعرابَ الذين يكونون بالجَنَاب فأجابوه إلى قول الإباضيَّة وكانوا قبلَ ذلك لا يزوِّجون الهُجنَاء فأجابوه إلى التَّسوية وزَوَّجوا هجيناً فقال الهجين في ذلك: من الرجز إنا وجَدْنا الدَّسْتَوائيّينا الصائمين المتعبِّدينا أفضلَ منكمْ حَسَباً ودِينا أخزى الإلهُ المتكبِّرينا أفيكُمُ مَن يُنكِح الهَجِينا وقال: إنما قيل ذلك لواصل لأنّه كان يكثر الجلوسَ في سوق الغزّالين إلى أبي عبد اللَّه مولى قَطَن الهِلاليّ وكذلك كانت حالُ خالدٍ الحَذَّاءِ الفقيه وكما قالوا: أبو مسعودٍ البدري لأنه كان نازلاً على ذلك الماء وكما قالوا: أبو مالك السُّدِّيّ لأنه كان يبيع الخُمُر في سُدَّة المسجد وهذا الباب مستقصىً في كتاب الأسماء والكنى وقد ذكرنا جملة منه في كتاب أبناء السَّراري والمَهِيرات قال أبو عثمان: وهي أربعة أحرف: القاف والسين واللام والراء فأما التي هي على الشين المعجمة فذلك شيء لا يصوِّره الخَطّ لأنه ليس من الحروف المعروفة وإنما هو مَخْرجٌ من المخارج والمخارجُ لا تُحصَى ولا يُوقف عليها وكذلك القولُ في حروف كثيرة من حروف لغات العجم وليس ذلك في شيء أكثَرَ مِنه في لغة الخوز وفي سواحل البحر من أسياف فارسَ ناسٌ كثير كلامُهم يشبه الصَّفير فمَنْ يستطيع أن يصوِّر كثيراً من حروف الزَّمزمة والحروفِ التي تظهر من فم المجوسيّ إذا تَرك الإفصاحَ عن معانيه وأخَذَ في باب الكناية وهو على الطعام فاللُّثغة التي تعرِض للسّين تكون ثاء كقولهم لأبي يَكسوم: أبي يَكثوم وكما يقولون: بُثْرَةٌ وبِثْم اللَّهِ إذا أرادوا بُسْرة وبسم اللَّه والثانية اللثْغة التي تعرِض للقاف فإن صاحبها يجعل القاف طاءً فإذا أراد أن يقول: قلت له قال: طُلْت له وإذا أراد أن يقول: قال لي قال: طال لي وأما اللثغة التي تقع في اللام فإن مِن أهلها مَن يجعل اللام ياء فيقول بدل قوله: اعتَلَلْتُ: اعتيْيت وبدل جَمَل: جَمَيْ وآخرون يجعلون اللامَ كافاً كالذي عرض لعُمَر أخي هلال فإنه كان إذا أراد أن يقول: ما العلة في هذا قال: مَكْعِكّة في هذا وأمّا اللُّثغة التي تقع في الراء فإنَّ عددَها يُضعِف على عدد لثغة اللام لأنّ الذي يعرِض لها أربعةُ أحرف: فمنهم مَن إذا أراد أن يقول: عمرو قال: عَمْي فيجعل الراء ياءً ومنهم من إذا أراد أن يقول: عمرو قال: عَمْغ فيجعل الراء غيناً ومنهم من إذا أراد أن يقول: عمرو قال: عَمْذ فيجعل الراء ذالاً وإذا أنشد قول الشاعر: من الرمل واستبدَّت مَرَّةً واحدة إنما العاجزُ مَن لا يستبدّ قال: واستبدَّت مَذَّة واحدة إنما العاجز من لا يستبدّ فمن هؤلاء عليّ بن الجُنيد بن فُرَيدى ومنهم من يجعل الراء ظاءً معجمة فإذا أراد أن يقول: واستبدت مرة واحدة إنما العاجز من لا يستبدّ يقول: واستبدَّت مَظَّة واحدة إنما العاجز من لا يستبدّ ومنهم من يجعل الرّاء غَيناً معجمة فإذا أراد أن ينشد هذا البيت قال: واستبدت مغَّةً واحدة إنما العاجز من لا يستبدّ كما أن الذي لُثْغته بالياء إذا أراد أن يقول: واستبدّت مرة واحدة يقول: واستبدت مَيَّةً واحدة وأما اللثغة الخامسة التي كانت تعرض لواصل بن عطاء ولسليمان بن يزيدَ العدويِّ الشاعر فليس إلى تصويرها سبيل وكذلك اللثغة التي تعرض في السين كنحو ما كان يعرِض لمحمَّد بن الحجاج كاتب داود بن محمد كاتب أم جعفر فإنّ تلك أيضاً ليست لها صورةٌ في الخط تُرى بالعين وإنما يصوِّرها اللِّسان وتتأدَّى إلى السمع وربَّما اجتمعت في الواحد لثُغْتان في حرفين كنحو لثغة شَوْشَى صاحب عبد اللَّه خالد الأموي فإنه كان يجعل اللامَ ياءً والراء ياء قال مرّةً: مَويايَ وييُّ أيّيّ يريد: مولاي وليّ الرَّيّ واللُّثغة التي في الراء إذا كانت بالياء فهي أحقرهنَّ وأوضَعُهنَّ لذي المروءة ثم التي على الظاء ثم التي على الذال فأمَّا التي على الغين فهي أيسرهنَّ ويقال إنّ صاحبَها لو جَهَدَ نفسَه جَهْدَه وأحَدّ لسانَه وتكلّف مَخرج الراء على حقِّها والإفصاح بها لم يكُ بعيداً من أن تُجيبه الطَّبيعة ويؤثِّر فيها ذلك التعهُّد أثراً حسناً وقد كانت لثُغة محمَّد بن شبيبٍ المتكلّمُ بِالغَين وكان إذا شاء أن يقول: عَمْرو ولعمري وما أشبه ذلك على الصحَّة قاله ولكنه كان يستثقل التكلُّف والتهيؤَ لذلك فقلت له: إذا لم يكن المانعُ إلا هذا العذرَ فلستُ أشكُّ أنك لو احتملتَ هذا التكلُّفَ والتتبُّعَ شهراً واحداً أنّ لسانك كان يستقيم فأمَّا من تعتريه اللُّثغة في الضاد وربَّما اعتراه أيضاً في الصَّاد والراء حتَّى إذا أراد أن يقول: مُضَر قال: مُضَى فهذا وأشباهُه لاحقون بشَوشَى وقدْ زعم ناسٌ من العوامّ أن موسى عليه السلام كان ألثَغ ولم يقِفوا من الحروف التي كانت تعرِض له على شيء بعينه فمنهم مَن جعل ذلك خِلقة ومنهم من زعَم أنَّه إنما اعتراه حين قالت آسيةُ بنتُ مُزاحِمٍ امرأة فرعون لفرعون: لا تَقْتُلْ طفلاً لا يعرف التَّمر من الجمر فلمَّا دعا له فرعونُ بهما جميعاً تناول جَمرةً فأهوى بها إلى فِيه فاعتراه من ذلك ما اعتراه وأما اللُّثغة في الراء فتكون بالياء والظّاء والذال والغين وهي أقلُّها قبحاً وأوجدُها في ذَوِي الشرف وكبار الناس وبُلغائهم وعلمائهم وكانت لثغة محمد بن شبيبٍ المتكلّمُ بالغين فإذا حَمَل على نفسه وقوَّم لسانَه أخرج الرَّاء على الصّحة فتأتَّى له ذلك وكان يَدَعُ ذلك استثقالاً أنا سمعت ذلك منه قال: وكان الواقديُّ يروي عن بعض رجالِه أنّ لسان موسَى كانت عليه شأْمة فيها شَعَرات وليس يدلُّ القرآنُ على شيءٍ من هذا لأنّه ليس في قوله: )وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي( طه: 72 دليلٌ على شيءٍ دونَ شيء وقال الأصمعيّ: إذا تتعتع اللسانُ في التاء فهو تمتام وإذا تتعتع في الفاء فهو فأفاء وأنشد لرؤبة بن العجّاج: من الرجز يا حَمْدَ ذَاتَ المنطِق التّمتامِ كأنّ وَسْواسَكِ في اللِّمامِ حديثُ شيطانِ بني هِنّامِ وبعضهم ينشد: يا حَمْد ذاتَ المنطق النَّمْنَامِ وليس ذلك بشيء وإنما هو كما قال أبو الزَّحْف: من الرجز لست بفأفأءٍ ولا تَمتامِ ولا كثيرِ الهُجْرِ في الكلام وأنشد أيضاً للخَوْلانيِّ في كلمةٍ له: من الكامل إنَّ السِّياط تَرَكن لاستِك منطِقاً كمقالة التمتامِ ليس بِمُعْرِبِ فجعل الخَولانيُّ التمتامَ غيرَ مُعْرِبٍ عن معناه ولا مفصحٍ بحاجته وقال أبو عبيدة: إذا أدخَلَ الرَّجلُ بعضَ كلامه في بعض فهو أَلفُّ وقيل بلسانه لَفَفٌ وأنشدني لأبي الزَّحْف الراجز: من الزجر كأنّ فيه لَفَفاً إذا نطَقْ من طُولِ تحبيسٍ وهَمٍّ وأرَقْ كأنّه لما جلس وحْدَه ولم يكن له مَن يكلِّمه وطال عليه ذلك أصابه لففٌ في لسانه وكان يزيدُ بن جابر قاضي الأزارقة بعد المُقَعْطل يقال له الصَّموت لأنّه لما طال صمتُه ثُقل عليه الكلام فكان لسانُه يلتوي ولا يكاد يبين وأخبرني محمدُ بنُ الجهم أنّ مثل ذلك اعتراه أيامَ محاربة الزُّطّ من طول التفكُّر ولزوم الصَّمت حديث بني قُرْطٍ إذا ما لقيتَهم كنَزْو الدَّبا في العرفج المتقارِبِ قال ذلك حين كان في كلامهم عَجَلة وقال سلمة بن عَيَّاش: من الطويل كَأنَّ بني رألانَ إذْ جاء جمعُهم فراريجُ يُلقَى بينهنّ سَويق فقال ذلك لدِقّة أصواتهم وعَجَلة كلامهم وقال اللَّهَبيُّ في اللجلاج: من الرجز ليس خَطيبُ القوم باللجلاجِ ولا الذي يَزْحلُ كالهِلباجِ ورُبَّ بيداءَ وليلٍ داجِ هتكتُه بالنَّصِّ والإدلاجِ وقال محمد بن سَلاَّم الجُمَحي: كان عمرُ بن الخطاب رحمه اللَّه إذ رأى رجلاً يتلجلج في كلامه قال: خالقُ هذا وخالقُ عمرِو بن العاصي واحد ويقال: في لسانه حُبْسة إذا كان الكلام يثقُل عليه ولم يبلُغْ حدَّ الفأْفاء والتمتام ويقال في لسانه عُقْلةٌ إذا تَعقَّل عليه الكلام ويقال: في لسان لكنَةٌ إذا أدخل بعض حروف العجَم في حروف العرب وجَذبت لسانَه العادةُ الأولى إلى المخرج الأوَّل فإذا قالوا: في لسانه ُ حكْلة فإنما يذهبون إلى نُقصان آلة المنطق وعَجْز أداة اللفظ حتى لا تُعْرَفَ معانيه إلا بالاستدلال وقال رؤبة بن العجاج: من الرجز لو أنّني أوتيتُ عِلْم الحُكَلِ عِلمَ سليمانَ كلامَ النملِِ وقال محمد بن ذُويبِ في مديح عبد الملك بن صالح: من الطويل وقال التَّيمي في هجائه لبني تَغلب: من الطويل ولكنَّ حُكْلاً لا تُبِينُ ودينُها عبادةُ أعلاجٍ عليها البرانسُ قال: وأنشَدَني سُحيمُ بن حفص في الخطيب الذي تَعرِض له النّحنحة والسُّعلة وذلك إذا انتفخَ سَحْرُه وكَبا زَنده ونَبا حدُّه فقال: من الرجز نَعوذُ باللَّه مِن الإهمالِ ومِن كَلالِ الغَرْب في المَقالِ ومن خطيب دائِم السُّعالِ وأنشدني ابنُ الأعرابيِّ: من الرجز إنَّ زياداً ليس بالبكيِّ ولا بَهيَّابٍ كثيرِ العِيِّ وأنشدني بعض أصحابنا: من البسيط ناديتُ هَيْذَانَ والأبوابُ مغلقةٌ ومثلُ هَيْذانَ سَنَّى فتحةَ البابِ كالهُنِدُوانيِّ لم تُفْلَلْ مَضارِبهُ وجهٌ جميلٌ وقلبٌ غيرُ وَجَّابِ وقال آخر: من الطويل إذا اللَّه سَنَّى عقْدَ شيءٍ تيسراِ وقال بشر بن المُعتَمِرِ في مثل ذلك: من الكامل وذلك أنّه شهد رَيْسان أبا بُجَير بن رَيْسانَ يخطُب وقد شهدتُ أنا هذه الخطبةَ ولم أر جباناً قط أجرأَ منه ولا جريئاً قطُّ أجبنَ منه وقال الأشلُّ الأزرقيّ - من بعض أخوالِ عمرانَ بنِ حِطّان الصُّفريِّ القَعَديِّ - في زيد بن جندبٍ الإياديِّ خطيبِ الأزارقة وقد اجتمعا في بعض المحافل فقال بعد ذلك الأشَلُّ البكريّ: من الرجز نَحنَحَ زيدٌ وسَعَلْ لمّا رأى وَقْعَ الأسَلْ ويلُ أمِّه إذا ارتَجَلْ ثمَّ أطالَ واحتَفَلْ وقد ذكر الشَّاعر زيدَ بنَ جندبٍ الإياديّ الخطيبَ الأزرقيَّ في مرثيِتِه لأبي دُوَادِ بنِ حَرِيز الإيادي حيثُ ذكره بالخطَابة وضرب المثلَ بخطباء إياد فقال: من الطويل كقُسِّ إياد أو لَقيطِ بن مَعْبدٍ وعُذْرَةَ والمِنطيقِ زَيدِ بن جُندبِ وزيدُ بن جندبٌ هو الذي قال في الاختلاف الذي وَقع بين الأزارقة: من البسيط قل للمحِلِّين قد قرَّتْ عيونكُم بفُرقة القومِ والبغضاءِ والهَرَبِ كنَّا أُناساً على دين ففرَّقَنَا طولُ الجِدال وخَلْط الجِدِّ باللعبِ ما كان أغْنى رجلاً ضلّ سعيُهم عن الجِدال وأغناهُمْ عن الخُطَبِ إنِّي لأَهَونُكُمْ في الأرضِ مُضطرَباً مالي سِوى فَرَسي والرُّمحِ مِن نَشبِ وأمَّا عُذْرة المذكور في البيت الأوَّل فهو عُذْرة بن حُجَيرة الخطيبُ الإياديّ ويدل على قَدره فيهم وعلى قَدْره في اللَّسَن وفي الخُطَب قولُ شاعرهم: من الطويل وأيُّ فَتَى صَبْرٍ على الأين والظَّما إذ اعتصَرُوا لِلَّوح ماءَ فِظاظِها إذا ضَرَّجُوها ساعةً بدِمائها وحُلَّ عن الكَوْماء عَقْدُ شِظاظها فإنّك ضَحَّاكٌ إلى كلِّ صاحبٍ وأنْطَقُ من قُسٍّ غَداةَ عُكاظِها إذا شَغَبَ المَوْلَى مُشاغبُ مَعْشَرٍ فعُذْرَةُ فيها آخِذٌ بكِظاظِهاِ فلم يضرِب هذا الشّاعرُ الإياديُّ المثلَ لهذا الخطيبٍ الإياديِّ وإلاّ برجُلٍ من خُطباء إياد وهو قُسُّ بنُ ساعدة ولم يضرِبْ صاحبُ مرثية أبي دُوَادِ بن حَرِيزٍ الإياديِّ المثلَ إلاّ بخطباءِ إيادٍ فقط ولم يفتقر إلى غيرهم حيث قال في عُذرة بن حُجَيرة: من الطويل كقُسِّ إيادٍ أو لَقيطِ بن مَعْبَدٍ وعُذْرَةَ والمِنطَيقَ زيدِ بن جُنْدبِ وأول هذه المرثيَة قوله: من الطويل نعى ابنَ حَرِيز جاهلٌ بمُصابِه فعَمَّ نزاراً بالبُكا والتَّحَوُّبِِ نعاهُ لنا كاللَّيثِ يحميِ عرينَه وكالبَدْرِ يُعْشِي ضوؤُه كلَّ كوكبِ وأصْبَرُ من عَوْدٍ وأهْدَى إذا سَرَى من النَّجمِ في داجٍ من اللَّيل غَيْهَبِ زعيمُ نزارٍ كلِّها وخَطِيبُها إذا قام طاطا رأسَه كلُّ مِشْغَبِ سليلُ قُرومٍ سادة ثُمَّ قالةٍ يبذّون يومَ الجمع أهل المُحصَّبِِ كقُسِّ إيادٍ أو لقيطِ بن معبدٍ وعُذْرةَ والمنطيق زيدِ بن جُندبِ في كلمةٍ له طويلة وإيَّاهُم عَنَى الشَّاعرُ بقولهِ: من الكامل يرْمُون بالخُطَب الطِّوالِ وتَارةً وَحْيَ المَلاَحِظ خيفةَ الرُّقَباءِِ قال: أخبرني محمَّد بن عبَّاد بن كاسِب كاتبُ زهير ومولى بَجِيلة من سَبي دابق وكان شاعراً راوية وطلاّبة للعلم عَلاّمة قال: سمعت أبا داود بن حَرِيز يقول وقد جَرى شيءٌ من ذكر الخُطَبِ وتحبيرِ الكلام واقتضابِه وصعوبةِ ذلك المَقام وأهوالِه فقال: تلخِيص المعاني رِفْقٌ والاستعانة بالغريب عَجْز والتَّشادقُ مِن غير أهل البادية بُغْض والنَّظَر في عيون النَّاس عِيّ ومَسُّ اللِّحية هُلْك والخروجُ مِمَّا بُنِي عليه أوَّلُ الكلام إسهاب قال: وسمعتُه يقول: رأس الخَطابة الطبْع وعَمُودُها الدُّربة وجناحاها رواية الكلام وحَلْيُها الإعراب وبهاؤُها تَخيُّر الألفاظ والمحبَّة مقرونةٌ بقلّة الاستكراه وأنشدني بيتاً له في صفةِ خطباءِ إياد: يَرمُون بالخُطب الطّوالِ وتارةً وَحْيَ المَلاَحِظِ خِيفةَ الرُّقَباءِ فذكر المبسوطَ في موضعه والمحذوفَ في موضعه والموجَز والكنايةَ والوحْيَ باللَّحظِ ودَلالة الجودُ أخْشَنُ مسّاً يا بني مَطَرٍ مِنْ أن تَبُزَّكُمُوه كَفُّ مستلِبِِ ما أعْلَمَ الناسَ أَنّ الجودَ مَدْفَعةٌ للذّمّ لكنَّه يأتِي على النَّشَبِ قال: ثمَّ لم يحفِل بها فادَّعاها مسلمُ بن الوليد الأنصاريّ أو ادُّعِيَت له وكان أحدَ مَن يجيد قريضَ الشِّعر وتحبيرَ الخطب وفي الخطباء مَن يكون شاعراً ويكونُ إذا تحدَّث أو وصَف أو احتجَّ بليغاً مفوَّهاً بَيِّناً وربما كان خطيباً فقطْ وبيِّن اللسان فقط فمن الخطباء الشعراء الأبيناءِ الحكماء: قُسُّ بن ساعِدة الإياديّ والخطباءُ كثيرٌ والشعراء أكثَرُ منهم ومن يجمع الشِّعرَ والخطابَةَ قليل ومنهم: عمرو بن الأهتم المِنْقَري وهو المكَحَّل قالوا: كأنَّ شِعره في مجالس الملوك حُلَلٌ منشورة قيل لعمر بن الخطاب رحمه اللَّه: قيل للأوسيّةِ: أيُّ منظرٍ أحسن فقالت: قصورٌ بيضٌ في حدائقَ خُضْر فأنشد عند ذلك عمرُ بن الخطاب بيتَ عديّ بن زيد العِبَاديّ: من الخفيف كَدُمَى العاج في المحاريب أو كال بَيض في الرَّوض زَهْرُهُ مُسْتَنيرُ قال: فقال قَسامة بن زُهيرِ: كلام عَمرِو بنِ الأهتم آنَقُ وشعره أحسن هذا وقَسامة أحدُ أبيناء العرب ومن الخطباء الشعراء: البَعِيث المُجاشِعيِّ واسمه خِداش بن بِشْر بن بَيْبَة ومن الخطباء الشعراء: الكُمَيْتُ بن زيدٍ الأسدي وكنيته أبو المستَهلّ ومن الخطباء الشعراء: الطِّرِمَّاح بن حَكيم الطائيِّ وكنيته أبو نَفْرٍ قال القاسم بن مَعْن: قال محمَّد بن سهلٍ راويةُ الكميت: أنشدتُ الكميت قولَ الطِرمّاح: من الطويل إذا قُبِضت نَفْسُ الطّرِمّاح أَخلَقَتَ عُرَى المَجْد واستَرْخَى عنانُ القَصائِدِ قال: فقال الكميت: إي واللَّهِ وعِنان الخَطابة والرِّواية وقال أبو عثمان الجاحظ: ولم يَرَ الناسُ أعجبَ حالاً من الكُميت والطرمّاح وكان الكميتُ عدنانيّاً عصبيّاً وكان الطرِمّاح قَحطانياً عَصَبيّاً وكان الكميت شِيعيّاً من الغالية وكان الطرِمَّاح خارجيّاً من الصُّفْريّة وكان الكميت يتعصَّب لأهل الكوفة وكان الطرمَّاح يتعصب لأهل الشام وبينهما مع ذلك من الخاصَّة والمخالَطة ما لم يكن بين نَفْسَينِ قطّ ثم لم يَجْر بينهما صَرمٌ ولا جَفْوةٌ ولا إعراض ولا شيء مما تدعو هذه الخصالُ إليه ولم يَرَ الناسُ مثلَهما إلا ما ذكروا من حال عبد اللَّه بن يزيد الإباضيِ وهشام بن الحكَم الرافضي فإنّهما صارا إلى المشارَكة بعد الخِلْطة والمصاحبة وقد كانت الحال بين خالِد بن صَفْوانَ وشبيبِ بن شيبةَ الحالَ التي تدعو إلى المفارَقة بعد المنافسة والمحاسَدة للذي اجتمع فيهما من اتِّفاق الصِّناعة والقَرابة والمجاورة فكان يُقال: لولا أنهما أحكمُ تميمٍ لتبايَنَا تبايُنَ الأُسْدِ والنُّمْر وكذلك كانت حالُ هشامِ بن الحكم الرَّافضيّ وعبد اللَّه بن يزيد الإباضيّ إلا أنهما أفْضَلا على سائر المتضادِّين بما صارا إليه من الشِّرْكةِ في جميع تجارَتِهما وذكر خالدُ بنُ صفوانَ شبيبَ بنَ شيبة فقال: ليس له صديقٌ في السِّرّ ولا عدوٌّ في العلانِيَةِ فلم يعارضْه شبيب وتدلُّ كلمةُ خالدٍ هذه على أنه يُحسِن أن يسُبّ سَبَّ الأشراف ومن الشعراء الخطباء: عِمْرانُ بن حِطَّانَ وكنيته أبو شهاب أحدُ بني عمرو بن شيبانَ إخوةِ سَدُوس فمن بني عمرٍو بن شيبانَ مع قِلّتهم من الخطباء والعلماء والشعراء: عِمرانُ بن حِطّانَ رئيسُ القَعَدِ من الصُّفريَّة صاحبُ فُتْياهم ومَفْزَعهُم عند اختلافهم ومنهم: دَغْفَل بن حنظلةَ النَّسَّابةُ الخطيب العلاّمة ومنهم القَعقاع بن شَوْر وسنذكُر شأنَهم إذا انتهَينا إلى موضع ذكرِهم إن شاء اللَّه ومن الخطباء الشعراء: نصر ابن سَيّارِ أحد بني لَيث بن بكر صاحب خراسان وهو يُعَدُّ في أصحاب الوِلايات والحروب في التدبير وفي العَقل وشِدَّة الرأيِ ومن الخطباء الشعراء العلماء: زيد بن جُندب الإياديّ وقد ذكرنا شأنه ومن الخطباء الشعراء: عَجلانُ بن سَحْبانَ الباهليّ وسحبانُ هذا هو سحبانُ وائِلٍ وهو خطيب العرب ومن الخطباء الشعراء العلماء وممن قد تنافر إليه الأشراف: أعشى هَمْدَان ومن الشعراء الخطباء: عِمران بنُ عِصام العَنَزِيِّ وهو الذي أشار على عبد المَلِك بخلْع عبد العزيز أخيه والبيعةِ للوليد بن عبد الملك في خطبته المشهورة وقصيدته المذكورة وهو الذي لمّا بلغ عبدَ الملك بن مروان قَتَلُ الحجَّاج له قال: ولم قَتَله ويْله ألاَّ رَعَى له قولَه فيهِ: من الكامل فإذا طبخْتَ بنارِهِ أنْضَجْتَها وإذا طَبَخْتَ بغيرها لم تَنْضَجِ وهو الهِزَبْرُ إذا أرادَ فَرِيسةً لم يُنْجِها منه صِياحُ مُهَجْهِجِِ ومن خطباء الأمصار وشعرائهم والمولَّدين منهم: بَشّارٌ الأعمى وهو بشارُ بن بُرْد وكنيته أبو مُعاذ وكان من أحد موالي بني عُقَيل فإن كان مولى أمِّ الظِّباء على ما يقول بَنُو سَدوس وعلى ما ذكره حَمَّادُ عَجْرَدٍ فهو من موالي بني سَدوس ويقال إنه من أهلِ خراسانَ نازلاً في بني عُقيل وله مديحٌ كثيرٌ في فُرسانِ أهلِ خُراسانَ ورِجالاتهم وهو الذي يقول: من الرمل من خُراسانَ وبيتي في الذُّرَى ولَدَى المَسعَاة فَرْعي قد بَسَقْ وقال: من الطويل وإنِّي لمِنْ قَوْمٍ خُراسانُ دارُهم كرامٍ وفَرْعِي فيهمُ ناضرٌ بَسَقْ وكان شاعراً راجزاً وسجَّاعاً خطيباً وصاحب منثورٍ ومزدَوِج وله رسائلُ معروفة وأنشد عُقبةُ بنُ رؤبة عقبةَ بن سَلْم رجزاً يمتدحه به وبشَّارٌ حاضر فأظهرَ بشارٌ استحسانَ الأُرجوزة فقال له عقبةُ بن رؤبة: هذا طراز يا أبا مُعاذٍ لا تُحسِنُه فقال بشّار: ألِمِثلي يُقال هذا الكلام أنا واللَّهِ أرجَزُ منك ومِن أبيكَ ومن جَدِّك ثم غدا عَلَى عُقبةَ بنِ سَلْمٍ بأرجوزته التي أوّلها: من الرجز وفيها يقول: من الرجز اسْلمْ وحَيِّيتَ أبا المِلَدِّ للّهِ أيامُك في مَعدِّ وفيها يقول: الحُرُّ يُلحَى والعصا للعَبْد وليس للمُلْحِفِ مِثلُ الرَّدِّ وفيها يقول: وصاحبٍ كالدُّمَّل المُمِدِّ حملتُه في رُقْعةٍ من جِلْدِي وما دَرى ما رَغبتي من زُهْدي أي لم أُرِهِ زُهداً فيه ولا رغبةً ذهب إلى قول الأغَرّ الشاعر: من الطويل لقد كنت في قومٍ عليكَ أشِحَّةٍ بنفسك لولا أنّ من طاح طائحُ يَوَدُّون لو خاطُوا عليكَ جُلودَهُمْ وهَلْ يدفُع الموتَ النّفُوسُ الشحائحُ والمطبوعون على الشعر من المولَّدين بشارٌ العُقيليّ والسَّيِّد الحِمْيريّ وأبو العتاهية وابن أبي عُيَيْنة وقد ذكر الناسُ في هذا الباب يَحيى بن نوفل وسَلْماً الخاسر وخَلَفَ بن خليفة وأبانُ بنُ عبد الحميدِ اللاحقيُّ أَوْلى بالطَّبع من هؤلاء وبشّارٌ أطبَعُهم كلِّهم ومن الخطباء الشعراء ومَن يؤلّف الكلامَ الجيّدَ ويصْنَع المناقلاتِ الحسانَ ويؤلِّف الشعر والقصائدَ الشريفة مع بيانٍ عجيبٍ ورواية كثيرة وحُسْن دَلٍّ وإشارة: عيسى بن يزيد بن دأْب أحد بني ليث بن بكر وكنيته أبو الوليد ومن الخطباء الشعراء ممن كان يجمع الخَطابةَ والشِّعرَ الجيّدَ الرسائلَ الفاخرة مع البيان الحسن: كلثوم بن عمرو العَتَّابيّ وكنيته أبو عمرو وعلى ألفاظِه وحَذْوه ومثاله في البديعِ يقولُ جميعُ من يتكلَّف مِثلَ ذلك من شعراء المولَّدين كنحو مَنْصُورٍ النَّمَري ومسلم بن الوليد الأنصاريّ وأشباهِهما وكان العتابيُّ يحتذِي حَذْوَ بشَّار في البديع ولم يكن في المولَّدين أصوبُ بديعاً من بشَّارٍ وابن هَرْمة والعتابيُّ من ولد عمرو بن كلثوم ولذلك قال: من البسيط إنِّي امرؤٌ هدَمَ الإقتارُ مأَثرتِي واجتاحَ ما بَنَتِ الأيامُ من خَطرِي أيَّامَ عمرِوُ بنَ كلثوم يسوّدُه حَيَّا ربيعةَ والأفنْاءُ من مُضَرِ أَرُومةٌ عطَّلتْني مِن مكارِمِها كالقَوس عَطَّلها الرَّامي من الوتَرِ ودَلَّ في هذه القصيدة على أنّه كان قصيراً بقوله: نَهَى ظِرَافَ الغَوانِي عن مُواصَلتي ما يفجأُ العينَ من شَيِبي ومن قِصَري ومن الخطباء الشعراء الذين قد جَمعُوا الشّعر والخطبَ والرسائلَ الطِّوالَ والقِصارَ والكتبَ الكبارَ المخلدة والسِّيَر الحِسانَ المدوَّنة والأخبارَ المولَّدة: سَهلُ ابن هارون بن راهَيِوني الكاتب صاحب كتاب ثُعلة وعُفرة في معارضة كتاب كليلة ودمنة وكتاب الإخوان وكتاب المسائل وكتاب المخزوميّ والهذلية وغير ذلك من الكتب ومن الخطباء الشعراء: عليّ بن إبراهيم بن جَبلَة بن مَخْرَمة ويُكنى أبا الحسن وسنذكر كلام قُسّ بن ساعدة وشأن لَقيط بن معبد وهند بنت الخُسِّ وجُمعة بنت حابس وخطباء إياد إذا صرْنا إلى ذكر خطباء القبائل إن شاء اللَّه ولإيادٍ وتميمٍ في الخُطب خَصلةٌ ليست لأحدٍ من العرب لأنّ رسولَ اللَّه # هو الذي رَوَى كلامَ قُسِّ بن ساعدةَ وموقفَه على جمله بعُكاظ وموعظتَه وهو الذي روَّاهُ لقريشٍ والعرب وهو الذي عَجَّبَ من حُسْنه وأظْهَر من تصويبه وهذا إسنادٌ تعجز عنه الأماني وتنقطع دونه الآمال وإنما وفَّق اللَّه ذلك الكلامَ لقُسِّ بن ساعدةَ لاحتجاجه للتوحيد ولإظهاره معنى الإخلاص وإيمانه بالبَعْث ولذلك كان خطيبَ العرب قاطبةً وكذلك ليس لأحدٍ في ذلك مثلُ الذي لبني تميم لأنّ النبيَّ عليه السلام لما سأل عمرَو بنَ الأهتم عن الزِّبرقان بن بدر قال: مانعٌ لحَوْزتِه مطاعٌ في أدْنَيه فقال الزّبرقان: أما إنَّه قد علِمَ أكثر ممَّا قال ولكنَّه حسَدني شرفي فقال عمرو: أمَا لئنْ قال ما قال فواللَّه ما علمتُه إلاّ ضَيِّق الصدر زَمِرَ المروءة لئيمَ الخال حديث الغِنَى فلما رأى أنه خالف قولُه الآخرُ قولَه الأوَّل ورأى الإنكار في عَيْنَيْ رسول اللَّه قال: يا رسول اللَّه رضيتُ فقلتُ أحسنَ ما علمتُ وغضِبتُ فقلتُ أقبَحَ ما علِمتُ وما كذَبْتُ في الأولى ولقد صَدَقْتُ في الآخِرة فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عند ذلك: إنّ من البيان لسِحْراً فهاتان الخَصلتان خُصَّت بهما إيادٌ وتميم دون جميع القبائل ودخل الأحنفُ بنُ قيسٍ على معاويةَ بنِ أبي سفيان فأشار له إلى الوِساد فقال له: اجلِسْ فجلس على الأرض فقال له معاوية: وما منعك يا أحنَفُ مِن الجلوس على الوِساد فقال يا أميرَ المؤمنين إنّ فيما أوصى به قيسُ بنُ عاصمٍ المِنقريُّ وَلدَه أنْ قال: لا تَغْشَ السُّلطانَ حتَّى يَمَلَّك ولا تقطعه حتَّى ينساك ولا تجلس له في فِراش ولا وِساد واجعلْ بينك وبينه مجلِسَ رجلٍ أو رجُلين فإنَّه عسى أن يأتيَ مَن هو أولى بذلك المجلس منك فتُقامَ له فيكونَ قيامُك زيادةً له ونُقصاناً عليك حَسْبي بهذا المجلس يا أمير المؤمنين لعلَه أن يأتيَ مَن هو أولى بذلك المجلس منِّي فقال معاوية: لقد أُوتِيَتْ تميمٌ الحِكمَة مع رِقَّة حواشي الكلِم وأنشأ يقول: من السريع يا أيُّها السائلُ عَمَّا مضى وعِلْمِ هذا الزَّمِن العائِبِ إن كنتَ تبغي العلمَ أو أهلَه أو شاهداً يُخْبِرُ عن غائِبِ فاعتبرِ الأَرضَ بسُكَّانها واعتبر الصَّاحبَ بالصَّاحبِ وذهبَ الشاعرُ في مرثيَة أبي دُؤادٍ في قوله: من الطويل إلى شبيهٍ بقول جبَّارِ بن سُلْمَى بن مالك بن جعفر بن كِِلاَب حين وقَفُ على قبر عامرِ بن الطُّفيل فقال: كان واللَّهِ لا يضلُّ حتَّى يضلَّ النَّجم ولا يعطَش حتَّى يعطَشَ البعير ولا يَهابُ حتَّى يهابَ السَّيل وكان واللَّه خيرَ ما يكونُ حين لا تَظُنُّ نفسٌ بنفسٍ خيراً وكان ريدُ بن جندبٍ أشْغَى أفلح ولولا ذلك لكان أخطبَ العرب قاطبةً وقال عَبيدة بن هلال اليشكُريّ في هجائه له: من الرجز أشْغَى عَقَنْباةٌ ونابٌ ذو عَصَل وقَلَحٌ بادٍ وسِنٌّ قد نَصَلْ وقال عَبِيدة أيضاً فيه: من الكامل ولَفُوك أشْنَعُ حين تنطقُ فاغراً مِن في قريحٍ قد أصاب بَرِيرَا وقد قال الكميت: من المتقارب تُشبَّه في الهام آثارُها مَشَافرَ قَرْحَى أكَلْنَ البريرا وقال النَّمرُ بنُ تولَبٍ في شُنْعة أشداق الجمَل: من البسيط كم ضَرْبةٍ لك تَحْكي فا قُرَاسِيةٍ من المَصَاعب في أشداقه شَنَعُ القُراسِيَةُ: بعيرٌ أضجَم والضَّجَم: اعوجاجٌ في الفم والفَقَم مثلُه والرَّوَق: ركوبُ السنِّ الشّفَة وفي الخطباء مَن كان أشغَى ومن كانَ أشدَق ومن كان أرْوَق ومن كان أضْجَم ومن كان أفقم وفي كلِّ ذلك قد روينا الشاهد والمثل وروى الهيثمُ بن عدي عن أبي يعقوبَ الثَّقَفيّ عن عبد الملك بن عُمير قال: قدِم علينا الأحنفُ بنُ قيس الكوفةَ مع المُصعَب بن الزبير فما رأيتُ خَصلةً تُذَمّ في رجلٍ إلاّ وقد رأيتُها فيه: كان صَعْل الرأس أحجَنَ الأنف أغضَفَ الأذن متراكِب الأسنان أشدَقَ مائل الذَّقن ناتئ الوَجْنة باخق العين خفيف العارضَين أحنَف الرِّجلين ولكنّه كان إذا تكلَّم جلَّى عن نفسه ولو استطاع الهيثمُ أن يمنَعه البيانَ أيضاً لمنَعَه ولولا أنّه لم يجد بدّاً من أن يجعل له شيئاً على حالٍ لَمَا أقرّ بأنه إذا تكلَّم جلّى عن نفْسه وقوله في كلمته هذه كقول هند بنت عُتبة حين أتاها نَعِيُّ يزيدَ بن أبي سفيان فقال لها بعض المعَزِّين: إنّا لنرجو أنْ يكونَ في معاويةَ خلفٌ من يزيد فقالت هند: ومثلُ معاويةَ لا يكونُ خلَفاً من أحد فواللَّه أنْ لو جُمِعت العربُ من أقطارها ثم رُمِي به فيها لخَرَج من أيِّ أَعراضِها شاء ولكنّا نقول: ألمثل الأحنف يقال: إلا أنّه كان إذا تكلَّمَ جلَّى عنْ نَفْسه ثم رجَع بنا القول إلى الكلام الأوَّلِ فيما يعتري اللِّسانَ من ضُروب الآفات قال ابنُ الأعرابيّ: طلّق أبو رَمادة امرأتَه حين وجدَها لثغاء وخاف أن تجيئه بولدٍ ألثغ فقال: من الرجز لَثغاء تأتي بِحِيَفْسٍ ألثِغِ تَميسُ في المَوْشِيّ والمصبَّغِ الحِيَفْس: الولد القصير الصغير وأنشدني ابنُ الأعرابيّ كلمةً جامعةً لكثير من هذه المعاني اسكُتْ ولا تَنِطقْ فأنتَ حَبْحابْ كلُّك ذو عيبٍ وأنت عَيَّابْ إنْ صدَق القومُ فأنت كذَّاب أو نطَقَ القومُ فأنتَ هيَّابْ أو سكَتَ القومُ فأنت قَبْقَابْ أو أقدموا يوماً فأنت وجَّاب وأنشدني في هذا المعنى أيضاً: من المتقارب ولست بِدُمَّيْجَةٍ في الفِرا - ش وجَّابةٍ يحتمِي أن يُجِيبا ولا ذِي قَلاَزِمَ عند الحياضِ إذا ما الشَّريبُ أرابَ الشَّريبا الدُّمَّيْجة: الثقيل عن الحركة والقَلازم: كثْرة الصيِّاح وأنشدني: من السريع رُبَّ غريب ناصحِ الجيبِ وابن أَبٍ مُتَّهَم الغَيبِ ورُبَّ عيَّاب له منظرٌ مُشتمِلُ الثَّوبِ على العَيب وأنشدني أيضاً: من الوافر وأجرأُ من رأيتُ بظهْرِ غيب على عَيب الرِّجال ذوُو العيوبِ وقال سهلُ بن هارون: لو عَرفَ الزّنجي فَرط حاجته إلى ثناياه في إقامة الحروف وتكميل آلة البيان لما نزع ثناياه وقال عمر بن الخطاب رحمه اللَّه في سُهَيل بن عمرو الخطيب: يا رسولَ اللَّه انزَع ثَنِيَّتِيْه السُّفْلَيَيْنِ حَتَّى يَدْلَعَ لسانُه فلا يقومَ عليك خطيباً أبداً وإنَّما قال ذلك لأنَّ سهيلاً كان أعلمَ من شفته السُّفلََى وقال خَلاَّد بن يزيدَ الأرقط: خطب الجمحيُّ خطبةَ نكاحٍ أصابَ فيها معانيَ الكلام وكان في كلامه صفيرٌ يخرج من موضع ثناياه المنزوعة فأجابه زيدُ بنُ عليّ ابنِ الحسين بكلام في جودة كلامه إلا أنَّه فَضَلَه بُسن المخرج والسَّلامةِ من الصفير فذكر عبدُ اللَّه بن معاويةَ بن عبد اللَّه بن جعفر سلامةَ لفظ زيدٍ لسلامة أسنانه فقال في كلمةٍ له: من الكامل قَلّت قوادحُها وتمَّ عديدُها فله بذاك مَزِيَّةٌ لا تنكرُ ويروى: صحَّت مخارجُها وتمَّ حروفها المزيَّة: الفضيلة وزعم يَحيى بن نُجَيم بن معاوية بن زمعة أحدُ رواةِ أهلِ البصرة قال: قال يونس بن حبيبٍ في تأويل قول الأحنف بن قيس: من الوافر أنا ابنُ الزَّافِريَّة أرضعَتْني بثديٍ لا أجَدَّ ولا وخيمِ أتمَّتْني فلم تنقص عظامي ولا صَوتي إذا جَدَّ الخصومُ قال: إنما عني بقوله عظامي أسنانَه التي في فمِه وهي التي إذا تَمَّت تمت الحروفُ وإذا نقصت نقصت الحروف وقال يونس: وكيف يقول مثله: أتَمّتنْي فلم تنقصْ عِظامي وهو يريد بالعظام عظامَ اليدين والرجليْنِ وهو أحنفُ من رجليه جميعاً مع قول الحُتات له: واللَّه إنكَ لضئيلٌ وإن أمَّك لَوَرْهَاءُ وكان أعرَف بمواقع العيوب وأبصَر بدقيقها وجليلِها وكيف يقول ذلك وهو نُصْب عيونِ الأعداء والشّعراءِ والأكْفاء وهو أنفُ مُضَرَ الذي تَعطِس عنه وأبْيَنُ العربِ والعجم قاطبة قالوا: ولم يتكلمْ معاويةُ على مِنبر جماعةٍ منذُ سقطَتْ ثناياه في الطّست قال أبو الحسن وغيرُه: لما شَقَّ على معاوية سقوطُ مَقادمِ فيه قال له يزيدُ بن معنٍ السُّلميّ: واللَّه ما بلغ أحدٌ سِنَّكُ إلا أبغض بعضُه بعضاً ففُوك أهْوَنُ علينا من سمعك وبصرك فطابت نفسُه وقال أبو الحسن المدائنيّ: لما شَدَّ عبدُ الملك أسنانَه بالذهب قال: لولا المنابر والنِّساء ما باليتُ متى سقطَتْ قال: وسألتُ مباركاً الزِّنجيّ الفاشكَار ولا أعلم زنْجِيّاً بلغ في الفَشكرةِ مبلغَه فقلت له لِمَ تنزع الزنجُ ثناياها ولِمَ يحدِّدُ ناسٌ منهم أسنانَهم فقال: أمَّا أصحاب التحديد فللقِتال والنَّهش ولأنّهم يأكلون لحومَ الناس ومتى حارب ملكٌ ملكاً فأخذه أسيراً أو قتيلاً أكله وكذلك إذا قاتَل بعضُهم بعضاً أكل الغالبُ منهم المغلوب وأما أصحاب القَلْع فإنّهم قالوا: نَظَرْنا إلى مَقَادم أفواهِ الغَنَم فكرهْنا أن تشبه مقادمُ أفواهنا مقادمَ أفواهِ الغَنَم فكم تظنُّهم - أكرمَكَ اللَّه - فقَدُوا من المنافع العظام بفَقْد تلك الثنايا وفي هذا كلامٌ يقع في كتاب الحيوان وقال أبو الهنديّ في اللَّثَغ: من الوافر سَقَيتُ أبا المصرَّح إذْ أتاني وذُو الرَّعََثاتِ منتصبٌ يَصيحُ وقال محمد بن عمرٍو الرُّوميّ مولى أمير المؤمنين: قد صحَّت التجربة وقامت العِبرة على أنَّ سقوطَ جميع الأسنان أصْلَحُ في الإبانة عن الحروف منه إذا سقط أكثرُها وخالف أحدُ شَطريها الشَّطر الآخر وقد رأينا تصديقَ ذلك في أفواه قومٍ شاهَدَهم النَّاسُ بعد أن سقطت جميعُ أسنانِهم وبعد أن بقيَ منها الثّلُث أو الرُّبُع فممن سقطت جميع أسنانِه وكان معنَى كلامِه مفهوماً: الوليدُ بن هشامٍ القحْذَمي صاحبُ الأخبار ومنهم: أبو سفيان بن العلاءِ بن لبيدٍ التَّغلبي وكان ذا بيانٍ ولَسن وكان عبيد اللَّه بن أبي غَسَّان ظريفاً يصرِّف لسانه كيف شاء وكان الإلحاح على القيسيّ قد بَرَد أسنانَه حتّى لا يَرى أحدٌ مِنها شيئاً إلاّ إن تطلَّعَ في لحم اللِّثة أو في أُصول منابتِ الأسنان وكان سفيانُ بن الأبرد الكلبيّ كثيراً ما يجمع بين الحارّ والقارّ فتساقطت أسنانه جُمَعُ وكان في ذلك كلِّه خطيباً بَيِّناً وقال أهل التجربةِ: إذا كان في اللحم الذي فيه مَغاوزُ الأسنان تشميرٌ وقِصَر سَمْك ذهبت الحروفُ وفسَد البيان وإذا وَجَدَ اللسانُ من جميع جهاته شيئاً يقرعُه ويصكُّه ولم يمرَّ في هواءٍ واسِع المجالَ وكان لسانُه يملأ جَوْبةَ فمِه لم يضرَّه سقوطُ أسنانه إلا بالمقدار المغتفَر والجزء المحتَمل ويؤكِّد ذلك قولُ صاحب المنطق فإنَّه زعم في كتاب الحيوان أنَّ الطائرَ والسبُع والبهيمةَ كلَّما كان لسانُ الواحد منها أعرضَ كان أفصحَ وأبْينَ وأحكى لما يُلَقَّن ولما يَسمَع كنحو الببغاء والغُداف وغراب البَيْن وما أشبه ذلك وكالذي يتهيَّأ من أفواه السنانير إذا تجاوبَتْ من الحروف المقطَّعة المشارِكة لمخارج حروفِ الناس وأمَّا الغنمُ فليس يمكنها أن تقول إلا ما والميم والباء أوَّلُ ما يتهيّأ في أفواه الأطفال كقولهم: ماما وبابا لأنهما خارجان من عمل اللسان وإنَّما يظهران بالتقاء الشفتين وليس شيءٌ من الحروف أدخَل في باب النقص والعجز من فم الأهتم من الفاء والسين إذا كانا في وسط الكلمة فأما الضَّاد فليست تخرجُ إلاّ من الشِّدق الأيمن إلاّ أن يكون المتكلّم أعْسَرَ يَسَراً مثل عمر بن الخطاب رحمه اللَّه فإنه كان يُخرج الضّادَ من أيِّ شِدقيه شاء فأمَّا الأيْمَن والأعْسر والأضْبَط فليس يمكنُهم ذلك إلا بالاستكراه الشديد وكذلك الأنفاسُ مقسومة على المنخرين فحالاً يكون في الاسترواح ودَفْع البُخار من الجوف من الشِّق الأيمن وحالاً يكون من الشّقّ الأيسر ولا يجتمعان على ذلك في وقتٍ إلا أن يستكرهَ ذلك مستكرِهٌ أو يتكلفَه متكلِّف فأمّا إذا ترك أنفاسَه على سجِيّتها لم تكن إلا كما قالوا وقالوا: الدَّليل على أنَّ من سقط جميعُ أسنانه أنَّ عِظَم اللِّسان نافعٌ له قول كَعب بن جُعَيلٍ ليزيدَ بن معاوية حين أمره بهجاء الأنصار فقال له: أرَادِّي أنت إلى الكفر بعد الإيمان لا أهجُو قوماً نصروا رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم وآوَوْه ولكنِّي سأدلُّك على غلامٍ في الحيِّ كافرٍ كأنَّ لسانَه لسانُ ثور يعني الأخطل وجاء في الحديث: إنّ اللَّه تبارك وتعالى يُبغض الرجلَ الذي يتخلَّل بلسانه كما تتخلل الباقرةُ الخَلاَ بِلسانها قالوا: ويدلُّ على ذلك قولُ حسَّانٍ بن ثابت حين قال له عليه السلام: ما بَقي من لسانك فأخرج لسانَه حتَّى قَرَع بطرَفه طرَف أرْنَبته ثم قال: واللَّه أنْ لو وضعتُُهُ على شعرٍ لحلَقه أو على صخرٍ لفلقه وما يسرُّني به مِقْوَلٌ من مَعَدّ وأبو السِّمط مَروانُ بن أبي الجَنوب بن مروانَ بن أبي حفصة وأبوه وابنه في نسقٍ واحد يقرعون بأطراف ألسنتهم أطرافَ آنفهم وتقول الهند: لولا أنّ الفيلَ مقلوبُ اللِّسان لكان أنطقَ من كلّ طائرٍ يتهيأ في لسانه كثيرٌ من الحروف المقطَّعة المعروفة وقد ضرب الذين زعموا أن ذهاب جميع الأسنان أصلحُ في الإبانة عن الحروف من ذَهاب الشّطر أو الثُّلثين في ذلك مثلاً فقالوا: الحمام المقصوص جناحاه جميعاً أجدرُ أن يطير مِن الذي يكون جناحاه أحدهما وافراً والآخر مقصوصاً قالوا: وعلّة ذلك التعديلُ والاستواء وإذا لم يكن ذلك كذلك ارتفع أحدُ شِقَّيه وانخفضَ الآخرَ فلم يَجْدِف ولم يَطِرْ والقطا من الطير قد يتهيَّأُ من أفواهها أن تقول: قَطَا قطا وبذلك سمِّيت ويتهيّأ من أفواه الكلاب العَيْنَاتُ والفاءات والواوات كنحو قولها: وَوْ وَوْ وكنحو قولها: عَفْ عَفْ قال الهيثم بنُ عدُيّ: قيل صبيّ: من أبوك فقال: وَوْ وَوْ لأنّ أباه كان يسمَّى كلباً قال: ولكلِّ لغةٍ حروفٌ تدور في أكثر كلامها كنحو استعمال الرُّوم للسين واستعمال الجرامقة للعين وقال الأصمعيّ: ليس للروم ضادٌّ ولا للفُرس ثاء ولا للسرُّيانيّ ذال قال: ومن ألفاظ العرب ألفاظٌ تتنافر وإن كان مجموعةً في بيت شعرٍ لم يستطع المنشدُ إنشادَها إلاّ ببعض الاستكراه فمن ذلك قول الشاعر: من السريع وقبرُ حربٍ بمكان قَفِر وليس قربَ قبْرِ حربٍ قبرُ ولما رأى مَن لا علم له أن أحداً لا يستطيع أن يُنشد هذا البيت ثلاثَ مَرَّاتِ في نسَق واحدٍ فَلا يتتعتعُ ولا يتلجْلج وقيل لهم إنّ ذلك إنما اعتراه وإذْ كان من أشعارالجِنّ صدَّقوا بذلك ومن ذلك قول ابن يَسير في أحمدَ بنِ يوسفَ حين استبطأه: من الخفيف هَلْ مُعينٌ على البُكا والعويلِ أم مُعَزٍّ على المُصاب الجليلِ ميِّتٌ مات وَهو في وَرَق العَيش مقيمٌ به وظلٍّ ظليلِ في عِدَادِ الموتى وفي عامِري الدُّنْ يا أبو جعفرٍ أخي وخليلي لم يَمُتْ مِيتة الوفاةِ ولكنْ مات من كلِّ صالحٍ وجميلِ لا أُذيل الآمالَ بعدك إنِّي بَعْدَها بالآمالِ حقُّ بَخيلِ كم لها وَقفةً ببابِ كريمٍ رجعَتْ من نَدَاه بالتعطيل ثم قال: من الخفيف لم يَضِرْها والحمدُ للّه شيءٌ وانثنَتْ نحو عَزْف نفسي ذَهُولِ فتفقّد النصفَ الأخِيرَ من هذا البيت فإنك ستجد بعضَ ألفاظه يتبرأُ من بعض وأنشدني أبو العاصي قال: أنشدني خلفٌ الأحمر في هذا المعنى: من الطويل وبعضُ قريض القوم أولادُ عَلَّةٍ يَكُدُّ لسان الناطِق المتحفِّظِ وقال أبو العاصي: وأنشدني في ذلك أبو البَيداء الرِّياحيّ: من الطويل وشِعرٍ كبعر الكَبْش فرَّق بينَه لسان دعِيّ في القريض دخيلِ وأما قولُ خلف: وبعض قريضِ القوم أولاد عَلَّة فإنَّه يقول: إذا كان الشعرُ مستكرَهاً وكانت ألفاظُ البيت من الشّعر لا يقع بعضُها مماثلاً لبعض كان بينها من التَّنافُر ما بين أولاد العَلاَّت وإذا كانت الكلمةُ ليس موقُعها إلى جنْب أُختها مَرْضِيّاً موافقاً كان على اللِّسان عند إنشاد ذلك الشعر مَؤُونة قال: وأجودُ الشِّعر ما رأيتَه متلاحم الأجزاء سهلَ المخارج فتعلمُ بذلك أنه قد أفرغ إفراغاً واحداً وسُبِك سبكاً واحداً فهو يجري على اللسان كما يجري الدِّهان وأما قوله: كبعر الكبش فإنما ذهب إلى أنَّ بعرَ الكبشِ يقع متفرقاً غيرَ مؤتلفٍ ولا متجاور وكذلك حروفُ الكلام وأجزاءُ البيت من الشِّعر تراها متَّفقة مُلْساً وليِّنة المعاطف سهلة وتراها مختلفةً متباينة ومتنافرة مستكرهة تشقُّ على اللسان وتكُدُّه والأخرى تراها سهلةً ليّنة ورَطْبة مُتَواتية سلِسةَ النِّظام خفيفةً على اللِّسان حتى كأنّ البيتَ بأَسْرِه كلمةٌ واحدة وحتّى كأن الكلمةَ بأسرها حرفٌ واحد وقال سُحَيم بن حفص: قالت بنتُ الحطيئة للحطيئة: تركتَ قوماً كراماً ونزلتَ في بني كُليبٍ بعرِ الكبش فعابتْهم بتفرُّق بيوتهم فقيل لهم: فأنشِدُونا بعضَ ما لا تتباينُ ألفاظهُ ولا تتنافر أجزاؤُه فقالوا: قال الثَّقفي: من البسيط من كانَ ذا عضُدٍ يدرِكْ ظُلامتَه إنّ الذَّليلَ الذي ليست له عضدُ تَنْبُو يداه إذا ما قلَّ ناصرُه ويأنَفُ الضّيم َ إنْ أثْرَى له عددُ وأنشدوا: من الطويل رَمَتْنِي وسِتْرُ اللَّه بيني وبينَها عشِيَّةَ آرامِ الكِناسِ رميمُ رميمُ التي قالتْ لجاراتِ بيتِها ضمِنْتُ لكم ألاّ يزالُ يهيمُ ألا رُبَّ يومٍ لو رَمَتْني رميتُها ولكنَّ عهدي بالنِّضالِ قديمُ وأنشدوا: من المتقارب ولستُ بِدُمَّيجَةٍ في الفرا - شِ وجَّابةٍ يحتمي أن يُجيبا ولاذي قلازم عند الحِياض إذا ما الشَّريب أرابَ الشّريبا وقال أبو نوفل بن سالم لرؤبةَ بن العجاج: يا أبا الجَحَّاف مُتْ إذا شئت قال: وكيف ذاك قال: رأيت عُقبة بنَ رؤبة ينشد رجزاً أعجبني قال: إنّه يقولُ لو كان لقولِه قِران وقال الشاعر: من الوافر مَهاذِبةٌ مَناجِبةٌ قِرانٌ مَنَادِبةٌ كأنهمُ الأُسُودُ وأنشد ابنُ الأعرابي: من البسيط وبات يدرُس شِعراً لا قِرانَ له قد كان نَقَّحه حولاً فما زادا وقال الآخر بشَّار: من الطويل فهذا بديهٌ لا كتحبير قائلٍ إذا ما أراد القولَ زوّرهُ شَهرا فهذا في اقتران الألفاظ فأمّا في اقتران الحروف فإنّ الجيمَ لا تقارِن الظاء ولا القاف ولا الطاء ولا الغين بتقديم ولا بتأخير والزّاي لا تقارنُ الظَّاءَ ولا السِّين ولا الضاد ولا الذال بتقديم ولا بتأخير وهذا بابٌ كبير وقد يُكتفَى بذكر القليل حتَّى يُستَدَلَّ به على الغاية التي إليها يُجرَى وقد يتكلَّم المِغْلاق الذي نشأ في سَواد الكوفة بالعربيَّة المعروفة ويكون لفظُه متخيّراً فاخراً ومعناه شريفاً كريماً ويَعلمُ مع ذلك السامعُ لكلامه ومَخارجِ حروفِِه أنَّه نَبطيّ وكذلك إذا تكلم الخُراسانيُّ على هذه الصِّفة فإنَّك تعلم مع إعرابه وتخيُّر ألفاظِه في مَخرج كلامه أنّه خُراسانيُّ ومع هذا إنّا نجِدُ الحاكية من الناس يَحكي ألفاظَ سُكان اليَمَن مع مَخارج كلامهم لا يٌغادر من ذلك شيئاً وكذلك تكون حكايتُه للخُرَاسانيّ والأهوازيّ والزِّنجي والسِّنديّ والأجناسِ وغيرِ ذلك نعم حتَّى تجدُه كأنه أطْبَعُ منهم فإذا ما حَكى كلامَ الفأفاء فكأنما قد جُمِعَتْ كلُّ طُرْفَةٍ في كل فأفاءِ في الأرض في لسانٍ واحد وتجدُه يحكي الأعمى بصُوَرٍ ينشئها لوجهه وعينيه وأعضائه لا تكاد تجد مِن ألْف أعْمَى واحداً يجمع ذلك كلَّه فكأنّه قد جَمَع جميعَ طُرَف حركاتِ العُميان في أعمَى واحد ولقد كان أبو دَبُّوبة الزَّنجي مولى آل زيادٍ يقف بباب الكَرْخ بحضرةِ المُكَارين فينهِقُ فلا يبقى حمارٌ مريض ولا هَرم حسيرٌ ولا مُتعَبٌ بهيرٌ إلا نَهَقَ وقبل ذلك تسمع نَهيق الحِمار على الحقيقة فلا تنبعث لذلك ولا يتحرَّك منها متحرِّك حتَّى كانَ أبو دبُّوبة يحرّكه وقد كان جَمَعَ جميعَ الصورِ التي تجمع نهيقَ الحمار فجعَلَها في نهيق واحد وكذلك كان في نُباح الكلاب ولذلك زعمت الأوائلُ أنّ الإنسانَ إنما قيل له العالَمُ الصغيرُ سليلُ العالَم الكبير لأنّه يصوِّر بيديه كلَّ صورة ويحكى بفمه كل حكاية ولأنّه يأكلُ النَّباتَ كما تأكل البهائم ويأكل الحيوانَ كما تأكل السِّباع وأنّ فيه من أخلاق جميعِ أجناس الحيوان أشكالاً وإنما تهيَّأ وأمكنَ الحاكيةَ لجميعِ مخارِجِ الأمم لِمَا أعطى اللُّهُ الإنسانَ من الاستطاعة والتمكين وحين فضَّله على جميع الحيوان بالمنطق والعقل والاستطاعة فِبطُول استعمال التكلُّف ذلَّتْ جوارحُه لذلك ومتى تَرَك شمائلَه على حالها ولسانَه على سجيته كان مقصوراً بعادة المنْشأ على الشكل الذي لم يزل فيه وهذه القضيَّةُ مقصورةٌ على هذه الجملة مِن مخارج الألفاظ وصُوَر الحركات والسُّكون فأمَّا حروفُ الكلامِ فإنّ حُكْمَها إذا تمكّنَتْ في الألسنة خلافُ هذا الحكم ألا ترى أنّ السِّنْدي إذا جُلِبَ كبيراً فإنه لا يستطيع إلاّ أنْ يَجعلَ الجيم زاياً ولو أقامَ في عُلياَ تميم وفي سُفْلَى قيس وبين عَجُز هوازنَ خمسين عاماً وكذلك النبطيُّ القُحُّ خلافُ المِغلاق الذي نشَأَ في بلاد النَّبَط لأنَّ النَّبَطيَّ القُحَّ يجعل الزَّايَ سيناً فإذا أراد أن يقول: زَورَق قال: سَورْق ويجعل العين همزة فإذا أراد أن يقول: مُشْمَعِلّ قال: مُشْمَئِلّ والنّخاس يمتحن لسانَ الجارية إذا ظنّ أنها رومية وأهلُها يزعمون أنها مولدة بأن تقول: ناعمة وتقول: شمس ثلاث مرّاتٍ متواليات والذي يعترِي اللِّسان ممَّا يمنع من البيان أمور: منها اللُّثغة التي تعتري الصِّبْيان إلى أن ينشَّؤوا وهو خلافُ ما يعتري الشَّيخ الهرِمَ الماجّ المسترخِيَ الحَنَك المرتفعَ اللِّثة وخِلافُ ما يعتري أصحاب اللَّكَن من العَجَم ومن يُنشَّأ من العرب مع العجَمْ فمن اللُّكْن ممَّن كان خطيباً أو شاعراً أو كاتباً داهياً زيادُ بن سَلْمَى أو أُمامة وهو زِيادٌ الأعجم قال أبو عُبيدة: كان يُنشِد قوله: من الطويل قال: فكان يجعل السِّين شيناً والطاء تاءً فيقول: فتى زَادَه الشُّلْتَان ومنهم سُحَيْم عبدُ بني الحَسحاس قال له عمرُ بن الخطاب رحمه اللَّه وأنشد قصيدته التي يقول أوّلَها: من الطويل عُمَيرَة وَدِّعْ إنْ تَجَهّزتَ غاديَا كفى الشَّيبُ والإسلامُ للمرء ناهيا فقال له عُمر: لو قدَّمْتَ الإسلامَ على الشَّيب لأجَزتكُ فقال له: ما سَعَرْت يريد ما شَعَرت جعَلَ الشين المعجمة سيناً غير معجمة ومنهم: عُبيد اللَّه بن زِيادٍ والِي العراق قال لهانئ بن قَبِيصة: أَهَرُورِيٌّ سائر اليوم يريد: أحَرُوريّ ومنهم: صُهَيب بن سِنان النَّمَريّ صاحبُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يقول: إنّك لهائنٌ يريد إنك لَحَائن وصُهَيب بن سنان يرتضخ لُكْنة روميّة وعبيد اللَّه بن زياد يرتضخ لُكنةً فارسية وقد اجتمعا على جعل الحاء هاءً وأزدانْقاذارُ لكنته لكنةٌ نَبطيَّة وكان مثلَهما في جعل الحاء هاء وبعضُهم يَروي أنّه أَملى على كاتبٍ له فقال: اكتب: الهاصل ألفٌ كُرٍّ فكتبها الكاتب بالهاء كاللَّفظ بها فأعاد عليه الكلامَ فأعاد الكاتب فلما فَطِن لاجتماعهما على الجهل قال: أنت لا تُهسن أن تكتب وأنا لا أُهسِن أن أُملِي فاكتُبْ: الجاصل ألف كُرٍّ: فكتبها بالجيم معجمة ومنهم أبو مسلم صاحبُ الدَّعوة وكان حسَنَ الألفاظ جيِّدَ المعاني وكان إذا أراد أن يقول: قلت لك قال: كُلْت لك فشارك في تحويل القاف كافاً عبيدَ اللَّه بنَ زياد كذلك خبَّرنا أبو عبيدة قال: وإنَّما أُتي عُبيد اللَّه بن زيادِ في ذلك أنَّه نشأ في الأساورة عند شيرَويه الأسواريّ زوجِ أمِّه مَرجانة وقد كان في آل زيادٍ غيرُ واحد يسمى شِيروَيه قال: وفي دار شِيرويَه عاد عليٌّ ابنُ أبي طالبٍ زياداً من عِلةٍ كانت به. فهذا ما حضَرنَا من لُكْنة البلغاء والخطباء والرؤساء فأمَّا لُكنة العامَّة ومَن لم يكن له حظٌّ في المنطق فمثلُ فيلٍ مولى زياد فإنه قال مَرَّةً لزياد: أَهْدَوا لنا هِمَارَ وَهْشٍ يريد حمارَ وحش فقال زياد: ما تقولُ ويْلكَ قال: أهدَوا إلينا أيراً يريد عيراً فقال زياد: الأوَّلُ أهْوَن وفَهمَ ما أراد وقالت أمُّ ولدٍ لجرير بن الخَطَفَى لبَعضِ ولَدِها: وقع الجُرْدَان في عِجان أمِّكم فأبدلت الذّال من الجُرِذْان دالاً وضمَّت الجيم وجعلت العَجِين عجانا وقال بعض الشّعراء في أمِّ ولدٍ له يذكر لُكْنَتها: من الرجز أوَّلُ ما أسمعُ منها في السَّحَر تذكيرُها الأنَْثى وتأنيثُ الذّكَرْ والسَّوءَةُ السَّوآءُ في ذكر القَمَر لأنّها كانت إذا أرادَت أن تقول القمر قالت: الكَمَر وقال ابنُ عبّاد: ركَبتْ عجوزٌ سِنديّةٌ جملاً فلما مضى تحتها متخلِّعاً اعتراها كهيئة حركة الجِماع فقالت: هذا الذَّمَل يذَكِّرنا بالسَّرّ تريد أنه يذكّرها بالوطء فقلبت الشين سيناً والجيم ذالاً وهذا كثير وباب آخر من اللكنة قيل لنَبَطيٍّ: لِمَ ابتعتَ هذه الأتان قال: أركَبها وتَلَدُ لي فجاء بالمعنى بعينه لم يبدل الحروف بغيرها ولا زاد فيها ولا نقص ولكنّه فتح المكسور حين قال: وتلَدُ لي ولم يقل: تَلِد لي قال: والصَّقْلَبيُّ يجعل الذال المعجمة دالاّ في الحروف
|